الوقت- في قطاع غزة، لم تعد المأساة حكرًا على القصف والغارات، ولم يعد الموت حكرًا على صواريخ الطائرات والمدفعية، فاليوم، وفي مشهد أكثر قسوة وعبثية، يواجه الشعب الفلسطيني خطر الفناء تحت وطأة البرد والأمطار والرياح العاتية، داخل خيام مهترئة لا تصلح للحياة ولا تقي من الموت، ومع كل منخفض جوي يضرب القطاع المحاصر، تتكشف طبقة جديدة من الكارثة الإنسانية، لتؤكد أن حرب الإبادة لم تتوقف، بل تغيّرت أدواتها.
منازل مدمرة… وخيام تتحول إلى قبور
منذ بدء العدوان الإسرائيلي الواسع على غزة، دُمّر مئات آلاف المنازل كليًا أو جزئيًا، وأُجبر السكان على النزوح القسري تحت القصف، كثيرون لجؤوا إلى خيام نُصبت بجوار بيوتهم المدمّرة أو فوق أنقاضها، في محاولة يائسة للبقاء قريبين من المكان الذي سُلب منهم، غير أن هذه الخيام، التي تفتقر إلى أبسط معايير السلامة، تحولت مع الوقت إلى أماكن شديدة الخطورة، وخصوصًا في ظل الأحوال الجوية القاسية.
المنخفضات الجوية المتتالية كشفت هشاشة هذا “المأوى”، حيث لا جدران تحمي، ولا أسقف تردّ الرياح، ولا أرضيات تعزل عن المياه، بات الفلسطيني محاصرًا بين أنقاض منزله وخيمته، كلاهما يحمل خطر الموت في أي لحظة.
استشهاد شابة جراء سقوط جدار على خيمتها بفعل المنخفص
في تجسيد مأساوي لهذا الواقع، استشهدت شابة فلسطينية (30 عامًا) إثر سقوط جدار منزل قصفته قوات الاحتلال الاسرائيلي خلال حرب الإبادة على خيمتها في منطقة الميناء بحي الرمال غربي مدينة غزة، وأفادت مصادر طبية بأن الشابة توفيت على الفور بعد انهيار الجدار، بينما أصيب عدد من أفراد أسرتها بجروح متفاوتة.
وحسب شهود عيان، فإن الجدار كان تابعًا لمنزل تعرّض لقصف إسرائيلي سابق، ما أدى إلى تدميره جزئيًا، قبل أن تسقطه الرياح العاتية التي ضربت القطاع منذ مساء السبت، الجدار المنهك من القصف لم يحتمل قوة الرياح، فانهار فوق خيمة مجاورة تؤوي نازحين، ليحوّل الخيمة إلى ركام، ويقتل الشابة في لحظة واحدة.
وفي السياق نفسه، تسببت الأمطار الغزيرة والرياح القوية بتطاير وغرق آلاف خيام النازحين في مناطق متفرقة من قطاع غزة، وفق شهود عيان، كما غرقت مئات الخيام المقامة على شاطئ مدينة خان يونس جنوب القطاع، بفعل مدّ أمواج البحر نتيجة المنخفض الجوي، ما أجبر عائلات بأكملها على قضاء الليل في العراء.
وحذرت دائرة الأرصاد الجوية من شدة سرعة الرياح، وتشكل السيول، وخطر التزحلق، في وقت أكدت فيه التوقعات الجوية تأثر الأراضي الفلسطينية، بما فيها غزة، بمنخفض جوي رابع خلال أيام، ما ينذر بتفاقم الكارثة.
المنخفض الجوي… حين تصبح الطبيعة شريكًا قسريًا في المأساة
المنخفض الجوي الأخير لم يكن مجرد حالة طقس عادية، بل تحوّل إلى عامل مضاعِف للمأساة. فغزة، التي تعاني انهيارًا شبه كامل في البنية التحتية، لا تملك شبكات تصريف مياه فعالة، ولا مساكن صالحة، ولا مخازن طوارئ. ومع هطول الأمطار، تختلط مياه المطر بمياه الصرف الصحي، فتتحول مخيمات النزوح إلى برك آسنة، تنبعث منها الروائح وتنتشر فيها الحشرات والأمراض.
الرياح العاصفة تقتلع الخيام من أوتادها، وتحمل معها ما تبقى من متاع العائلات: أغطية، ملابس، طعام شحيح. أما الليل، فيأتي محمّلًا بالبرد القارس، ليحوّل ساعات الظلام إلى كابوس طويل، خصوصًا للأطفال والرضّع والمسنين.
البرد… سلاح صامت يحصد الأرواح
في غزة اليوم، البرد ليس تفصيلًا ثانويًا، بل خطر وجودي. آلاف العائلات لا تملك أغطية كافية، ولا ملابس شتوية، ولا وسائل تدفئة، الحصار يمنع إدخال الوقود، واستخدام النار داخل الخيام محفوف بالمخاطر، ما يجعل السكان أمام خيارين أحلاهما مرّ: البرد أو الاختناق.
الأطفال الرضّع، الذين يعانون أصلًا من سوء التغذية ونقص الحليب، هم الفئة الأكثر عرضة للموت بسبب انخفاض درجات الحرارة، حالات الالتهاب الرئوي وأمراض الجهاز التنفسي في ازدياد، في وقت تعجز فيه المستشفيات المنهكة عن تقديم العلاج اللازم.
مسؤولية الاحتلال وصمت العالم
ما يحدث في غزة لا يمكن عزله عن سياسات الاحتلال الإسرائيلي، الذي دمّر المنازل، ومنع إعادة الإعمار، وقيّد دخول المساعدات الإنسانية ومواد الإيواء، ترك الفلسطينيين في العراء، في مواجهة الشتاء، هو شكل من أشكال العقاب الجماعي، وانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
غير أن المسؤولية لا تقع على الاحتلال وحده، فالصمت الدولي، والعجز عن فرض إدخال مساعدات عاجلة، أو توفير مراكز إيواء لائقة، يجعل المجتمع الدولي شريكًا في تعميق المأساة، بيانات القلق لم تعد كافية، فيما الواقع على الأرض يزداد قتامة.
غزة… الموت بأشكال متعددة
في غزة، الموت لا يأتي من جهة واحدة، يأتي من السماء بالقنابل، ومن الأرض بالأنقاض، ومن البحر بالأمواج، ومن الشتاء بالبرد، إنها مأساة مركبة، يعيشها شعب يُترك وحيدًا في مواجهة كل شيء.
وهكذا، تختصر غزة واقعها بجملة موجعة: من لم يمت بالقصف الإسرائيلي، يموت الآن من البرد والقهر، وبين خيمة غارقة وجدار منهار، يواصل الفلسطيني صراعه اليومي من أجل البقاء، في عالم اختار أن يدير ظهره لأكثر الكوارث الإنسانية فداحة في العصر الحديث.
