الوقت- أعاد الحديث عن استعداد المجلس الانتقالي الجنوبي للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني فتح ملف خطير يتعلق بطبيعة الصراع في اليمن، وحدود الارتباط بين الفاعلين المحليين والأجندات الخارجية، فالتقرير الذي نشرته صحيفة التايمز البريطانية لا يمكن التعامل معه كخبر عابر، بل يمثل مؤشرًا واضحًا على تحولات عميقة في مواقف المجلس الانتقالي، ويكشف عن توجهات سياسية تتجاوز الشأن الجنوبي الداخلي إلى الاصطفاف ضمن مشاريع إقليمية ودولية مثيرة للجدل. إن إعلان الاستعداد للتطبيع، في ظل استمرار العدوان والحصار والأزمة الإنسانية الخانقة في اليمن، يطرح تساؤلات جوهرية حول أولويات هذا الكيان السياسي، ومدى تعبيره عن تطلعات أبناء الجنوب، أم إنه بات أداة في صراع نفوذ أوسع، تُستخدم فيه القضية الجنوبية كورقة تفاوض ومقايضة.
المجلس الانتقالي بين ادعاء التمثيل وارتهان القرار
لطالما قدّم المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه بوصفه الممثل الشرعي لتطلعات أبناء جنوب اليمن، مستندًا إلى خطاب سياسي يركز على المظلومية التاريخية وحق تقرير المصير، غير أن المواقف الأخيرة، وعلى رأسها الانفتاح على التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، تكشف تناقضًا صارخًا بين الخطاب والممارسة، فهذا القرار لم يصدر عن حوار مجتمعي واسع، ولا عن تفويض شعبي، بل جاء في سياق البحث عن دعم خارجي يضمن للمجلس تعزيز موقعه السياسي والعسكري.
إن الارتهان للدعم الخارجي، وخصوصًا حين يكون مشروطًا بالانخراط في مسار التطبيع، يفقد أي مشروع سياسي استقلاليته، ويحوّله إلى أداة تخدم مصالح الآخرين، وبدل أن يكون المجلس الانتقالي جزءًا من حل وطني شامل، يبدو أنه يسهم في تعميق الانقسام اليمني، من خلال تبني خيارات تصادمية مع الوجدان الشعبي اليمني والعربي، الذي يرى في الاحتلال الصهيوني عدوًا تاريخيًا وأخلاقيًا.
الدور الصهيوني وأهمية جنوب اليمن في الحسابات الاستراتيجية
لا يمكن فصل اهتمام الاحتلال الصهيوني بجنوب اليمن عن الأهمية الجيوسياسية الفائقة لهذه المنطقة، وخاصة موقعها المشرف على باب المندب وخطوط الملاحة الدولية، فاستراتيجية تل أبيب في السنوات الأخيرة تقوم على توسيع نطاق نفوذها الأمني والاستخباراتي في الممرات البحرية الحساسة، لضمان تفوقها التجاري والعسكري.
في هذا السياق، يشكل أي كيان محلي مستعد للتعاون أو التطبيع فرصة ثمينة للاحتلال، بغض النظر عن كلفتها على استقرار الدول المعنية، إن الاتصالات المزعومة بين المجلس الانتقالي ومسؤولين صهاينة تعكس هذا التلاقي في المصالح، حيث يسعى المجلس إلى الدعم السياسي، بينما يبحث الاحتلال عن موطئ قدم جديد في خاصرة الجزيرة العربية، هذا الدور، إن تأكد، لا يمثل فقط تهديدًا للسيادة اليمنية، بل يفتح الباب أمام تدويل أعمق للصراع، ويجعل الجنوب ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
الانعكاسات الداخلية للتطبيع على المجتمع الجنوبي
يمتاز المجتمع اليمني، شمالًا وجنوبًا، بموقف راسخ مناهض للاحتلال الصهيوني، يرتبط بالقيم الدينية والهوية العربية، إضافة إلى التضامن التاريخي مع القضية الفلسطينية، ومن هذا المنطلق، فإن أي توجه نحو التطبيع يُعد صدمة سياسية وأخلاقية لشرائح واسعة من المجتمع، ولا سيما في الجنوب الذي عانى طويلًا من الصراعات والتدخلات الخارجية.
إقدام المجلس الانتقالي على هذا المسار يعزز حالة الرفض والاحتقان الداخلي، كما أن هذه الخطوة قد تدفع قوى جنوبية أخرى إلى معارضة المجلس بشكل أكثر حدة، ما ينذر بتفجّر صراعات داخلية جديدة، وبدل أن يكون التطبيع وسيلة للاستقرار، فإنه يتحول إلى عامل تفكيك للنسيج الاجتماعي، ويغذي الشكوك حول حقيقة المشروع السياسي الذي يتبناه المجلس.
الأبعاد الإقليمية ومخاطر تحويل الجنوب إلى ساحة نفوذ
على المستوى الإقليمي، يحمل هذا التوجه دلالات بالغة الخطورة. فدخول الاحتلال الصهيوني على خط الأزمة اليمنية ،يعني توسيع دائرة الصراع وإضافة لاعب جديد ذي سجل عدواني في المنطقة، وهذا من شأنه أن يهدد أمن البحر الأحمر ودول الجوار، ويزيد من تعقيد أي جهود تسوية سياسية مستقبلية.
كما أن ربط مستقبل الجنوب اليمني بتحالفات مع قوى خارجية مثيرة للانقسام سيجعل أي كيان ناشئ هشًا ومعتمدًا على الحماية الأجنبية، بدل أن يستند إلى توافق وطني حقيقي، إن التجارب الإقليمية تثبت أن الكيانات التي تولد في ظل الارتهان للخارج غالبًا ما تعاني من عدم الاستقرار، وتدفع شعوبها ثمنًا باهظًا من أمنها وسيادتها.
التطبيع كاختبار للمشروعية والوعي الشعبي
يمثل إعلان الاستعداد للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني لحظة كاشفة في مسار المجلس الانتقالي الجنوبي، إذ يضعه أمام اختبار حقيقي لمشروعيته وصدقيته، فبدل أن يكون معبرًا عن تطلعات أبناء الجنوب، بات يُنظر إليه كجزء من شبكة مصالح خارجية. إن خطورة هذا المسار لا تكمن فقط في بعده السياسي، بل في تداعياته على وحدة اليمن وأمنه وهويته، ويبقى وعي الشعب اليمني، ورفضه لمثل هذه المشاريع، عاملًا حاسمًا في مواجهة محاولات تحويل قضاياه العادلة إلى أوراق مساومة إقليمية.
