الوقت-أثارت تقارير صحفية حديثة جدلًا واسعًا حول ما وُصف بأنه مخطط غير معلن يهدف إلى تهجير فلسطينيين من قطاع غزة مقابل مبالغ مالية تصل إلى آلاف الدولارات للفرد، في ظل الحرب المستمرة والأوضاع الإنسانية المتدهورة في القطاع، وتعيد هذه التقارير إلى الواجهة مخاوف قديمة تتعلق بإمكانية استغلال الكارثة الإنسانية في غزة لفرض وقائع ديموغرافية جديدة، تحت غطاء ما يُقدَّم على أنه “هجرة طوعية” أو “خيار فردي”، بينما يرى منتقدون أن الظروف القائمة تجعل من هذا الخيار أقرب إلى الإكراه غير المباشر.
وحسب تحقيقات صحفية نُشرت في ديسمبر 2025، فإن شبكات وساطة يُعتقد أنها تعمل بتنسيق مع جهات إسرائيلية تقوم بالترويج لبرامج خروج من قطاع غزة، يتم فيها تقديم تسهيلات سفر عبر معابر محددة أو عبر دول وسيطة، مقابل مبالغ مالية يدفعها الفلسطينيون أنفسهم في بعض الحالات، أو تُقدَّم لهم على شكل وعود بتأمين عمل أو إقامة خارج القطاع، وتشير هذه التقارير إلى أن العملية تُدار في بيئة تفتقر إلى الشفافية، وسط غياب أي ضمانات قانونية حقيقية لحقوق المغادرين، أو لحقهم في العودة مستقبلًا.
وتأتي هذه التطورات في سياق سياسي وإعلامي أوسع، إذ سبق أن تناولت وسائل إعلام دولية، من بينها قناة الجزيرة، تصريحات لمسؤولين أمريكيين تحدثوا عن “حلول واقعية” لأزمة غزة، تضمنت نقل أعداد من السكان إلى دول مجاورة، بحجة أن القطاع لم يعد صالحًا للحياة بعد الدمار الواسع الذي لحق به نتيجة العمليات العسكرية، وقد قوبلت هذه التصريحات برفض فلسطيني رسمي وشعبي، حيث اعتبرت حركة حماس أن أي دعوة لتهجير السكان، سواء بالقوة أو عبر الإغراءات الاقتصادية، تمثل انتهاكًا صارخًا للحقوق الوطنية وتواطؤًا مع سياسات الاحتلال.
في الوقت نفسه، ظهرت أطروحات اقتصادية وسياسية في الإعلام الغربي تتحدث عن مشاريع إعادة إعمار كبرى في غزة، من بينها مقترح لتحويل أجزاء من القطاع إلى منطقة استثمارية وسياحية، وهو ما وصفته تقارير أمريكية بأنه “إعادة تصور” لغزة ما بعد الحرب، إلا أن هذه الطروحات ربطت بشكل غير مباشر بين تنفيذ هذه المشاريع وإخلاء مساحات واسعة من السكان، سواء بشكل مؤقت أو دائم، ما أثار مخاوف من أن يكون التهجير جزءًا بنيويًا من هذه الرؤى وليس نتيجة عرضية لها.
من الناحية الإنسانية، يعيش سكان غزة أوضاعًا وُصفت من قبل منظمات حقوقية بأنها من الأسوأ عالميًا، حيث يعاني القطاع من نقص حاد في الغذاء والمياه والرعاية الصحية، إضافة إلى دمار واسع في البنية التحتية والمساكن، وتؤكد تقارير هيومن رايتس ووتش أن النزوح الداخلي القسري الذي تعرّض له مئات الآلاف من الفلسطينيين خلال العمليات العسكرية يشكل بحد ذاته انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، محذّرة من أن أي ترتيبات تدفع السكان إلى مغادرة القطاع تحت وطأة هذه الظروف لا يمكن اعتبارها طوعية بالمعنى القانوني.
ويطرح هذا الواقع أسئلة قانونية جوهرية حول مفهوم “الاختيار الحر” في بيئة تعاني من حصار وحرب وانعدام بدائل حقيقية، فوفق اتفاقيات جنيف، يُحظر النقل القسري للسكان المدنيين من الأراضي المحتلة، حتى وإن تم ذلك تحت مسميات إدارية أو اقتصادية، ما لم يكن هناك رضا حقيقي وغير مشروط من الأفراد المعنيين، ويرى خبراء قانونيون أن تقديم المال أو تسهيلات السفر في سياق أزمة إنسانية خانقة قد يُفسَّر كوسيلة ضغط غير مباشرة، تهدف إلى دفع الناس لاتخاذ قرارات مصيرية لا تعكس إرادتهم الحرة.
سياسيًا، ينعكس هذا الجدل على مواقف دول المنطقة، حيث أعلنت مصر والأردن في أكثر من مناسبة رفضهما لأي سيناريو يؤدي إلى تهجير جماعي للفلسطينيين من غزة، معتبرتين أن مثل هذه الخطوات قد تزعزع الاستقرار الإقليمي وتشكل سابقة خطيرة في التعامل مع النزاعات، كما حذّرت أطراف دولية من أن تطبيع فكرة التهجير، حتى لو كان تحت مسمى “الهجرة الطوعية”، قد يفتح الباب أمام ممارسات مشابهة في نزاعات أخرى حول العالم.
في المحصلة، تكشف التقارير المتعلقة بتهجير الفلسطينيين من غزة مقابل المال عن تشابك معقّد بين العوامل الإنسانية والسياسية والاقتصادية، وبينما تُقدَّم بعض المبادرات على أنها حلول فردية لمعاناة شخصية، يرى منتقدون أن السياق العام يشير إلى محاولة لإعادة تشكيل الواقع الديموغرافي للقطاع مستغلّةً ضعف السكان وحاجتهم الملحّة للأمان، ومن هذا المنطلق، يؤكد مراقبون أن أي نقاش حول مستقبل غزة يجب أن ينطلق من أولوية حماية السكان وحقوقهم، وضمان حقهم في البقاء والعودة، بدل تحويل معاناتهم إلى أداة تفاوض أو مشروع استثماري.
