الوقت – في يوم الأحد الماضي، أقدم الكيان الصهيوني على فعلة نكراء استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت، فأودت بحياة هيثم الطباطبائي، أحد قادة المقاومة البارزين، وأربعة من رفقاء دربه في مسيرة العز والإباء، وقد أثار تمادي هذه الاعتداءات السافرة، التي يقابلها صمت المحافل الدولية ومجلس الأمن صمت القبور، سيلاً عارماً من السخط المتأجج في أرجاء لبنان قاطبةً.
لم يكفّ الكيان الصهيوني منذ سريان وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024 عن نكث العهود من خلال غاراته اليومية، وإصراره على التشبث بخمس مناطق في جنوب لبنان.
وفي خضم هذه الأجواء المتوترة، صدم العدوان الصهيوني الأخير حتى أولئك المحللين الذين رجّحوا أن تؤجل تل أبيب مآربها العدوانية في لبنان إلى ما بعد زيارة البابا ليو الرابع عشر المرتقبة للبنان في الشهر القادم.
لقد آثر الكيان الصهيوني نبذ منطق “التوتر المحسوب” وارتكاب جريمة اغتيال مدبرة في لحظة سياسية وأمنية بالغة الدقة والحساسية، وكأنه يعلن للملأ أن أجندته منفصلة انفصالاً تاماً عن مساعي الوسطاء الدوليين ورسائل الفاتيكان، بل حتى ضغوط واشنطن والحكومة اللبنانية على حزب الله لتقليص شوكة المقاومة.
لقد برهنت "إسرائيل" من خلال هذه العملية أنها لن تنتظر البيانات الدبلوماسية المنمقة أو ثمرات المفاوضات، وأنها مستعدة لاقتحام أخطر العتبات متجاوزةً الخطوط الحمراء لحزب الله، إنه خرق صارخ للتوقعات بغية فرض إيقاع مغاير على الجبهة الشمالية، وربما على امتداد التراب اللبناني، قبل أن تتمكن واشنطن أو الفاتيكان أو أي مبادرات داخلية وخارجية من فرض أي قيود أو كوابح.
انتهج حزب الله منذ إقرار وقف إطلاق النار وحتى اللحظة الراهنة سياسة الصبر الجميل وعدم تأجيج أوار الصراع في مواجهة اعتداءات الكيان، بيد أن “الجنون المدروس والمفتعل” للکيان قوبل الآن بطوفان من الغضب والمطالبات بالثأر المشروع داخل لبنان، طوفان يبدو أنه انعكس على مستوى القرارات الاستراتيجية لحزب الله، حيث صرح محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي للحزب، يوم الأحد بأن الطباطبائي كان “شخصية جهادية محورية”، وأن قيادة الحزب ستتدارس كيفية الرد على هذا العدوان الغاشم.
وعليه، فقد لا تجري الأمور على المنوال المعهود، كما أفصح عماتسيا بارام، الخبير الصهيوني في جامعة حيفا، في حديث لصحيفة معاريف: “السؤال المحوري الذي يؤرق صناع القرار الآن هو: كيف سيرد حزب الله؟”
حزب الله بين خيارين: تغيير الاستراتيجية أم تعديل التكتيك؟
عقب استشهاد السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين وكوكبة من قادته الميامين خلال الحرب التي امتدت ستة وستين يوماً، نجح حزب الله في ذود حياض الأراضي اللبنانية والحيلولة دون تكرار سيناريو توغلات الجيش الصهيوني في سوريا، غير أنه، وابتغاء إعادة بناء قدراته العسكرية وتنظيمه القتالي، وكذلك لفكّ طوق الانسداد السياسي والإسراع في إعمار المناطق المتضررة، تنحى عن موقعه المتقدم في عملية صنع القرار لتشكيل الحكومة، مركزاً على غاياته الجوهرية المتمثلة في صون سلاح المقاومة، وتعزيز قدراته الدفاعية، وإعادة هيكلة بنيته القتالية والتنظيمية وفق دروس الحرب الأخيرة وعبرها المستخلصة.
هذا النهج الذي شكّل استراتيجية حزب الله الرئيسية في الأشهر المنصرمة أثار ذعر القادة الأمريكيين والصهاينة، فانبرت واشنطن إلى ممارسة ضغوط سياسية على الحكومة اللبنانية، بينما واصل الصهاينة غاراتهم المتكررة على لبنان ونقضهم للهدنة سعياً لعرقلة هذا المسار المرسوم.
يقر قادة تل أبيب اليوم بأن حزب الله، رغم الهجمات اليومية على لبنان، لم ينفك يرصّ صفوفه ويستعيد عافية قوته.
وقد أدلى يوآف زيتون، المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، بقوله: “يؤكد كبار الضباط أن غارات إسرائيل المتواترة لم تحل دون التعزيز العسكري لحزب الله، وخاصةً في القرى النائية عن خط التماس”.
وحتى في أعقاب الهجوم الأخير، أشار نتنياهو إلى خطر إعادة بناء قوة حزب الله باعتباره التهديد الأعظم، قائلاً: “لن نسمح بأي تهديد من حزب الله أو استعادته لقواه”.
وعليه، يتجلى أن الغاية الاستراتيجية للکيان الصهيوني وأمريكا من وراء تدبير الهجمات على لبنان، هي الحؤول دون إعادة بناء قدرات حزب الله وإبقاء مسار نزع سلاح المقاومة المزعوم مسدوداً في دهاليز العمليات الداخلية، وفي حين أعلن جوزيف عون، رئيس الجمهورية اللبنانية مؤخراً في الذكرى الثانية والثمانين لاستقلال البلاد أن الجيش أضحى على أهبة الاستعداد لاسترداد المواقع المحتلة في الجنوب والشروع في المفاوضات، فإن تل أبيب تروم من خلال هذا الاغتيال في قلب العاصمة، إلى إيصال رسالة فحواها أنها لن تعترف قط بالدولة والجيش اللبناني كطرف تفاوضي لتحديد آليات الأمن - رسالة ترمي إلى إذكاء نار الفتنة والشقاق الداخلي.
بعدوانها على حزب الله، تضع "إسرائيل" الحكومة اللبنانية كمرجعية للسيادة السياسية في مأزق عصيب، معلنةً أن تقاعس الحكومة اللبنانية وتخاذلها عن الاضطلاع بمسؤولياتها في نزع سلاح حزب الله والافتقار المزمن للسيطرة على المعابر والثغور، هو سبب الإجراءات الأحادية والاعتداءات التي يقترفها هذا الكيان، وقد شدد نتنياهو في رسالته قائلاً: “أتوقع من الحكومة اللبنانية أن تهب للعمل وتفي بالتزاماتها”، وبالتالي، تسعى تل أبيب من خلال هذا المسلك إلى تصعيد الضغط السياسي على الحكومة اللبنانية، لتشديد الخناق من أجل نزع سلاح حزب الله.
المسألة الثانية هي أن حزب الله، رغم غضبه المشروع من اغتيال قادته، يدرك تمام الإدراك أن الانزلاق إلى أتون حرب شاملة جديدة في الظروف الراهنة، قد يفضي إلى انهيار اقتصادي واجتماعي شامل للبنان، فهذا البلد الذي يئن تحت وطأة أحد أعمق الأزمات الاقتصادية في تاريخه، وتداعي الخدمات العامة، وانقسامات سياسية عميقة الغور، لا يملك طاقة تحمل جولة جديدة من الدمار المستطير، لذا، فإن أي قرار بالرد يتعين اتخاذه بعد حساب دقيق لهذه التكلفة الباهظة، وخطر دفع لبنان إلى هوة سحيقة لا مناص منها.
المسألة الثالثة في تقدير حزب الله لطريقة الرد، هي التنكب عن اللعب في ساحة نتنياهو المفضلة الذي يتخذ من إشعال فتيل الحروب استراتيجيةً لاستمرار بقائه. يتعين تحليل الهجوم الأخير في إطار الأزمة الداخلية العميقة لبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، فهو يتوق للفرار من مأزق يتشكل من ضغوط ناجمة عن قضايا الفساد المستشري، وانتقادات لأدائه في السابع من تشرين الأول، وتذمر متعاظم من حلفائه اليمينيين بسبب قبوله وقف إطلاق النار في غزة دون نزع سلاح حماس، فيلجأ إلى افتعال أزمات خارجية جديدة كتكتيك مألوف، ومن خلال جذب الأنظار إلى التهديد الخارجي في الشمال، يحدوه الأمل في إعادة رأب صدع الوحدة الداخلية الهشة حول محور الأمن وإسكات منتقديه داخل الحكومة والمجتمع الصهيوني، وبالتالي، فإن هذا العدوان ليس مجرد عمل ضد حزب الله، بل خطوة محسوبة لإطالة أمد الحياة السياسية لزعيمٍ محاصر من كل حدب وصوب.
المسألة الأخيرة هي الإبقاء على حيرة الکيان بشأن مدى وجودة إعادة بناء القدرات العسكرية لحزب الله، فأحد المقاصد الجوهرية لحزب الله في الأشهر المنصرمة، كان الحفاظ على أقصى قدر من الغموض والمفاجأة بشأن المستوى الحقيقي لإعادة بناء قدراته العسكرية والصاروخية، تساعد هذه الاستراتيجية على إبقاء الکيان الصهيوني في غياهب الظلام وعاجزاً عن استجلاء ما إذا كان حزب الله يمتلك القدرة على خوض غمار حرب واسعة النطاق أم لا.
كما أن اغتيال القادة البارزين، بمن فيهم الشهيد هيثم الطباطبائي، هو جزء من مسعى الكيان الصهيوني لخرق هذا الستار من الغموض وتقييم قوة حزب الله الراهنة بدقة أوفى، إن رد حزب الله على هذا الاغتيال، بصرف النظر عن حجمه، سيميط اللثام عن معلومات حيوية حول الحدود الجديدة لقدراته القتالية ومستوى استعداده، وهذه بحد ذاتها مناورة استراتيجية حاسمة للطرفين.
وعليه، وفي ضوء هذه الاعتبارات المتشابكة، سيغدو الرد المحتمل لحزب الله خياراً تكتيكياً يسير على أساس استراتيجيته الكبرى المتمثلة في التركيز على البناء وتدبير المستجدات الداخلية في صلته بالدولة والجيش، وقد أعلن محمود قماطي، رئيس المجلس السياسي لحزب الله، من موقع الغارة الجوية أن هذا الهجوم يمثّل انتهاكاً صارخاً للخط الأحمر، مؤكداً التزام الحزب بالتنسيق التام مع الحكومة والجيش اللبناني، وشدّد على أن واجب الجيش والشعب و"المقاومة"، هو النهوض للعمل على وقف هذه الاعتداءات المتكررة.
