الوقت- بعد أشهر من الحرب الضروس والدمار المستطير وانهيار البنى التحتية الأساسية في ربوع القطاع، بات السؤال المُلح يتمحور حول: كيف ستتشكل ملامح هذه البقعة المنكوبة في الأفق المنظور، وعلى أيدي أي لاعبين ستُصاغ معالمها؟
وبينما تتعالى الأصوات في المحافل الدولية متحدثةً عن إعادة إعمار غزة، كشف تقرير حديث لصحيفة وول ستريت جورنال النقاب عن تفاصيل المخطط الأمريكي الجديد لتقسيم القطاع، الذي يفصل بصورة جلية بين المناطق الخاضعة لسيطرة حماس، وتلك التي يبسط عليها جيش الاحتلال نفوذه والتي يُفترض أن ينسحب منها وفق اتفاق وقف إطلاق النار، ويحدد هذا المخطط المناطق الخاضعة لحماس (خارج الخط الأصفر) باللون الأحمر، بينما تُصبغ المناطق الخاضعة للصهاينة باللون الأخضر.
تشتمل المنطقة الخضراء على حزام أمني اقتصادي تُشيد فيه بنى تحتية مستحدثة تحت إشراف دولي-غربي، وقد تشهد في المستقبل القريب ضخّ استثمارات هائلة.
أما المنطقة الحمراء، فتضمّ نطاقاً تعجّ أرجاؤه بالكثافة السكانية الفلسطينية، يرزح تحت وطأة الخراب أو الإعمار المحدود للغاية، مع استمرار طوق الحصار البري والبحري يلتف حول عنقه.
خلف هذا المظهر البسيط، يكمن مشروع أعمق وأكثر هيكليةً من مجرد “إعادة إعمار” بالمفهوم المتعارف عليه: إنه إعادة تشكيل جيوسياسي وديموغرافي لقطاع غزة. في جوهر الأمر، لا يمثّل هذا التقسيم مجرد إجراء فني أو عمراني، بل يعكس هندسة بنية جديدة للسلطة والهيمنة والملكية في المنطقة، تتحقق عبر ثلاث أدوات رئيسية:
1. بسط السيطرة المطلقة على البحر وسد أي منفذ فلسطيني مستقل.
2. إحكام القبضة على الحزام الداخلي بإنشاء منطقة أمنية فسيحة (المنطقة الخضراء).
3. تشديد الخناق على قاطني المنطقة الساحلية المنكوبة (المنطقة الحمراء) لإضعاف قدرتهم على بناء كيان سياسي أو اقتصادي ناجع.
وعليه، فإن ما يجري على أرض الواقع لا يشابه أياً من نماذج إعادة الإعمار التقليدية، بل هو أقرب إلى إعادة تصميم استعماري معاصر يرمي إلى ربط مصير غزة بالمنظومة الأمنية التي ينشدها الكيان الصهيوني في المشهد الإقليمي، يرتكز هذا المخطط على إعادة تعريف غزة بوصفها كياناً يخدم المصالح الأمنية للكيان الصهيوني، والمطامع الاقتصادية للولايات المتحدة وحلفائها، ومصالح القطاع الخاص الدولي، والتحالفات الإقليمية المستجدة (الغاز/اللوجستيات).
وبناءً على ما سبق، فإن عملية الإعمار المزعومة لا تهدف إلى بثّ الحياة في أوصال السكان، بل إلى خلق واقع جديد من ملكية الأرض، وترسيخ وجود الشركات ورأس المال الأجنبي، وتثبيت الفصل الصارم بين مناطق الاستثمار والمناطق المكتظة بالسكان.
لقي هذا المخطط معارضةً شديدةً من حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، إذ يرون فيه محاولةً لبتر غزة عن جسد الأراضي الفلسطينية وتقويض أي سيادة فلسطينية حقيقية.
المنطقة الحمراء؛ الشَرَك السكاني في غزة
تمثّل المنطقة الحمراء في حقيقة الأمر شريطاً ساحلياً تتكدس فيه أعلى كثافة سكانية في غزة؛ بقعة أصابها الدمار في مقتل وتُرك أهلها دون أي خطة حقيقية للنهوض أو إعادة الإعمار، وما زالوا يئنون تحت نير الحصار البري والبحري والجوي.
ليست هذه المنطقة مجرد “فضاء متخلف”، بل هي أداة طوّعت لاحتواء السكان وخنق أنفاسهم، في هذا السياق، جرى تقليص المساحات الصالحة للسكن عن عمد، ودُكت البنى التحتية كالمياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق أو أُبقيت في حالة من الهشاشة، وقُيدت الخدمات الأساسية بشكل ممنهج لفرض تبعية مطلقة للمساعدات الإنسانية.
علاوةً على ما تقدم، بات من ضرب المستحيل عودة السكان إلى أحيائهم السابقة؛ إما بسبب الخراب الهائل الذي حلّ بها، أو بسبب تغيير الوضع القانوني للأراضي، نتيجةً لذلك، تشكل محتشد سكاني مكتظ؛ فضاء يستعصي فيه إعادة نسج خيوط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستدامة.
من المنظور الأمني، تضطلع المنطقة الحمراء بعدة أدوار محورية:
• تُبقي الكثافة السكانية في بؤرة مركزة يسهل رصدها ومراقبتها.
• تجعل أي تجمع للمقاومة فريسةً سهلةً للضغوط الإنسانية، من القصف والحصار إلى منع الإغاثة.
• تخلق ذريعةً دائمةً للتدخل العسكري متذرعةً بأن “العناصر المسلحة تتوارى بين ثنايا النسيج السكاني”.
ومن الناحية الاقتصادية، تترتب عليها تداعيات وخيمة، فقد استحالت المنطقة الحمراء عملياً إلى فضاء مجرد من الميناء، خال من التجارة البحرية، محروم من إمكانية الصيد الحر، ومفتقر إلى دورة الإنتاج، ويعتمد اقتصادها على المساعدات الإنسانية، ما يجعلها مصرفاً مالياً للمجتمع الدولي دون تمكين قاطنيها.
في المحصلة، تُشكّل المنطقة الحمراء فخاً سكانياً-اقتصادياً يُبقي ساكنيها في وضع أقرب إلى البقاء البيولوجي المحض، محرومين من مقومات الحياة الكريمة أو فرص تحقيق السيادة.
المنطقة الخضراء؛ الطوق الأمني–الاقتصادي
في المقابل، تمثّل المنطقة الخضراء شريطاً داخلياً فسيح الأرجاء طال الدمار معظم أجزائه، ويُفترض أن يُعاد تشييده وفق مخطط مستحدث بالکامل، تُعرَّف السمات الجوهرية لهذه المنطقة على النحو التالي:
• قابلة للإخضاع الأمني التام؛
• جاذبة لتدفقات الاستثمار الأجنبي؛
• تُدار تحت إشراف مباشر أو غير مباشر من هيئات دولية وغربية.
من المنظور الأمني، تقسم المنطقة الخضراء غزة إلى أجزاء قابلة للإدارة عبر إنشاء ممرات عسكرية دائمة. كما تتحول، بفضل نقاط التفتيش والقيادة على امتداد الطرق الرئيسية، إلى طوق أمني متطور يتيح لجيش الاحتلال، وربما قوات دولية تحت الإدارة الأمريكية، التحرك بسرعة فائقة عند اقتضاء الحاجة، كما يُيسر وجود مناطق شبه خالية من السكان تنفيذ العمليات العسكرية المستقبلية.
لهذا السبب، يمكن تفسير الدمار الشامل في المناطق التي تُقدم اليوم على أنها “خضراء”؛ فهو في حقيقته تطهير متعمد للأرض، وإزالة للمباني المملوكة لسكان غزة، وتهيئة للفضاء لإنشاء “أرض نظيفة” تستجيب للمتطلبات الأمنية والاقتصادية التي ينشدها مصممو المخطط.
اقتصادياً، يُفترض أن تتحول المنطقة الخضراء إلى محور للمشاريع الكبرى: تشييد طرق، ومحطات، ومراكز لوجستية، ومقار للشركات والمنظمات الدولية، وباقة من مشاريع الاستثمار، ستُقدم هذه المنطقة للعالم كواجهة لإعادة إعمار ناجحة؛ منطقة منفصلة عن قلب المأساة في المنطقة الحمراء ونموذج للترويج لـ"غزة الجديدة".
يرتكز البُعد الدعائي للمخطط على تقديم “المنطقة الخضراء” كرمز للسلام والرخاء ومستقبل مشرق لغزة، في هذه الرواية، تُستخدم لغة الإعمار المبتكر، وتصوير منطقة اقتصادية مزدهرة، و"مدينة ذكية" مستحدثة على شاطئ المتوسط، واجتذاب الاستثمار العالمي لتحسين حياة سكان غزة؛ لغة تَعِد ظاهرياً بالتنمية لكنها في جوهرها تُضفي لمعاناً خادعاً على مشروع أمني-استعماري في صميمه.
لماذا يقع الساحل في “المنطقة الحمراء” وليس في “المنطقة الخضراء”؟
يشكّل هذا السؤال مفتاح فهم جوهر المخطط، ويُظهر بجلاء أن اختيار الساحل كمنطقة حمراء ليس وليد العشوائية، بل هو قرار مدروس واستراتيجي بامتياز.
1. السيطرة على حقول الغاز البحرية
تنتشر قبالة سواحل غزة عدة حقول غاز ذات أهمية بالغة تُعرف باسم “غزة البحرية 1 و2”، وإذا تمكن الفلسطينيون أو حتى آلية دولية مستقلة من بسط نفوذهم على الساحل، فبإمكانهم نظرياً:
• الشروع في استخراج الغاز،
• التفاوض حول عائدات الطاقة،
• والدخول في شراكات إقليمية خارج الأطر الأمنية والطاقوية الإسرائيلية.
غير أن الكيان الصهيوني يسعى حثيثاً لدمج هذه الحقول في منظومة طاقة شرق المتوسط (الكيان الصهيوني–قبرص–اليونان–أوروبا) وسدّ الطريق أمام أي استقلال فلسطيني في مجال الطاقة؛ وذلك عبر إحكام القبضة على الساحل والمياه الإقليمية.
لذا، يستحيل أن يكون الساحل جزءاً من “منطقة خضراء” تتيح فرصة المشاركة المتكافئة أو التنمية المستدامة.
2. الساحل أداة أمنية-استراتيجية، وليس فضاءً معيشياً
من منظور تل أبيب، لا يمثّل ساحل غزة فضاءً تنموياً ولا حتى منطقة حضرية؛ بل خط دفاعي-هجومي لأنه:
• مسلك محتمل لتهريب السلاح والبضائع،
• بوابة لدخول المساعدات الإنسانية خارج نطاق سيطرة الكيان،
• نقطة بالغة الحساسية للوجود البحري المحتمل للاعبين دوليين.
لذلك، فإن إدراج الساحل ضمن “المنطقة الحمراء” يعني ترسيخ هذه الأهداف:
• استمرار الحصار البحري الدائم،
• الحيلولة دون إنشاء ميناء فلسطيني مستقل،
• جعل حركة البضائع والأفراد رهينةً كلياً لموانئ فلسطين المحتلة أو مصر.
3. الضغط السكاني الممنهج في الشريط الساحلي
بدفع سكان غزة نحو الشريط الساحلي المنكوب، تُحقق الأهداف التالية:
• خلق ازدحام مروع ينخر في نسيج التماسك الاجتماعي،
• استمرار شح المياه والكهرباء والخدمات الطبية والمساحات السكنية،
• تعزيز الهجرة القسرية للقادرين على مغادرة هذا الجحيم،
• إخلاء الساحل تدريجياً من سكانه الأصليين لإتاحة فرصة إعادة تصميمه مستقبلاً.
تضع هذه السياسة السكان في شرك حيوي-معيشي يقوّض إمكانية التنظيم الاجتماعي والسياسي المستدام.
4. تهيئة الشريط الساحلي لمشاريع مستقبلية
ظاهرياً، يبدو الساحل اليوم منطقةً أصابها الدمار في الصميم، تفتقر لخطة إعادة إعمار وتندرج ضمن “المنطقة الحمراء”. لكن في المنظور المتوسط والبعيد، يمكن إعادة تشكيل هذا الشريط الساحلي لخدمة الأهداف التالية:
• مشاريع سياحية أو مناطق ترفيهية بحرية،
• موانئ خاصة للمشاريع الإقليمية لا صلة لها بالسيادة الفلسطينية،
• مراكز استثمار دولية ومشاريع بنية تحتية خارج نطاق الإدارة المحلية.
سيتبلور هذا السيناريو حين يتم ترحيل السكان الحاليين من أجزاء محورية من الساحل، أو تشتيتهم، أو تهجيرهم، لتغدو الأرض “جاهزةً للاستغلال”.
التأثيرات والتداعيات
في حال تنفيذ هذا المخطط بحذافيره، ستكون تداعياته عميقة الجذور وهيكلية الطابع.
أولاً، ستتلاشى عملياً فكرة تشكيل دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967؛ لأن التقسيم الجديد لغزة يبترها تماماً عن الضفة الغربية، ويجعل تحقيق كيان سياسي متصل ومستدام وقابل للإدارة ضرباً من المستحيل.
ثانياً، ستتشكل بنية من المناطق السكانية والوظيفية المطوقة تشابه بوضوح أنماط الفصل العنصري؛ حيث تتحول “المنطقة الحمراء” إلى سجن سكاني ضخم، و"المنطقة الخضراء" إلى طوق أمني-اقتصادي مُسيطر عليه ومعزول.
هذا الوضع لا يعالج جذور المشكلة بل يعمقها؛ لأن استمرار الحصار، وغياب العدالة، وإلغاء السيادة الفلسطينية، وإعادة إنتاج السيطرة بآليات مستحدثة، كلها عوامل تهيئ التربة الخصبة للانفجارات المقبلة.
وفي ظل هذا السيناريو، تتحول غزة إلى أرض محاصرة ديموغرافياً واقتصادياً بشكل دائم، لا تملك أي سلطة فعلية على بحرها أو غازها أو حدودها، وتعتمد على الواردات والمساعدات الخارجية، لا على الإنتاج الداخلي، وتنقسم في أحشائها إلى مناطق محاصرة ووظيفية منفصلة.
إقليمياً، ستندمج غزة تدريجياً في منظومة أمنية-اقتصادية لشرق المتوسط؛ منظومة تهمّش البعد الفلسطيني وتدفع بمشاريع الغاز والنقل والموانئ تحت قيادة "إسرائيل" وحلفائها الإقليميين والأوروبيين، وبذلك تُقصي الوجود والسيادة الفلسطينية من المعادلات الاستراتيجية المستقبلية.
المقترحات والحلول
للتصدي الفعال لمخاطر المخطط ومنع ترسيخ تداعياته الجغرافية والسكانية والسيادية، نقترح عدداً من الإجراءات السياسية والاستراتيجية:
1. رفض أي تغيير جغرافي أو سكاني مفروض
من الضروري ترسيخ مبدأ “عدم الاعتراف بالتغييرات والتهجير المفروض بالقوة” كنهج راسخ في مواقف الدول العربية والفلسطينية، وإبرازه جلياً في جميع البيانات والمبادرات والاتفاقيات.
2. المطالبة بإدارة مشتركة فلسطينية-دولية للساحل
ينبغي التأكيد على تشكيل آلية إدارة مشتركة تضمن دور الفلسطينيين في القرارات المتعلقة بالغاز والطاقة واستغلال الساحل، وتحول دون الاستحواذ الكامل على الواجهة البحرية من قبل الكيان الصهيوني.
3. رفض إخلاء الساحل كمحور أساسي للمخطط
يتعين تحدي وفضح أي ترتيبات تفضي إلى الترحيل القسري أو التهجير التدريجي لسكان الساحل، سواء بالوسائل العسكرية أو من خلال الضغوط الاقتصادية، سياسياً وقانونياً وإعلامياً.
4. إنشاء مرصد إقليمي لرصد الهندسة الجغرافية القسرية
يُقترح تشكيل آلية دائمة عربية وإسلامية بقيادة فلسطينية ترصد تطورات غزة بصورة متواصلة، بما في ذلك الحدود، وإعادة الإعمار، وملكية الأراضي، والمشاريع العمرانية، وتحول دون تشكل نظام جغرافي جديد يهمّش الشعب الفلسطيني.
5. ترسيخ دور الدولة الفلسطينية في غزة في إدارة الملف الساحلي والغازي
يجب متابعة هذا الدور بصورة فاعلة لصون حقوق الفلسطينيين، وعدم ترك الملف الساحلي-الغازي برمته للمبادرات الصهيونية-الغربية.
6. صياغة رؤية موحدة للحقوق في أعقاب الحرب
من الضروري أن ترفض القيادة الفلسطينية المخططات القائمة على تقسيم غزة إلى مناطق “قابلة للتنفيذ” و"غير قابلة للتنفيذ"، وأن تؤكد على التماسك الجغرافي والحكم الموحد.
7. تأكيد حق العودة إلى جميع أرجاء غزة
ينبغي الإصرار على حق السكان في العودة إلى جميع أنحاء غزة، بما في ذلك المناطق المحددة في المخطط على أنها “خضراء”، والحيلولة دون أي هندسة سكانية.
8. التوثيق الشامل للتدمير والتغييرات القسرية
يجب توثيق وأرشفة جميع حالات التدمير البيئي، والإخلاء القسري، وتغيير الملكية، وإعادة التصميم المفروضة بدقة متناهية، لاستخدامها في المتابعات القانونية والدولية المستقبلية.
