الوقت- تعيش تركيا اليوم واحدة من أصعب مراحلها الاقتصادية منذ عقود، إذ تتشابك موجات التضخم المتصاعد مع تفاقم الفقر والبطالة، لتنتج بيئة خانقة تدفع ملايين الأتراك نحو العجز المالي والعجز عن سداد القروض، ومع ازدياد الضغوط على الأسر والقطاعات الإنتاجية، ارتفعت بشكل غير مسبوق أعداد الشكاوى القضائية وملفات الحجز على الممتلكات، في مشهد يختصر عمق الأزمة التي تضرب البلاد.
انفجار في عدد القضايا المالية: 25 مليون ملف قيد التنفيذ
أحدث المؤشرات الصادرة عن وزارة العدل التركية تكشف عن صورة قاتمة، عدد ملفات القضايا المالية المنظورة في دوائر التنفيذ القضائي ارتفع إلى نحو 25 مليون ملف، هذا الرقم يعكس مستوى غير مسبوق من العجز عن سداد الديون والقروض البنكية، إضافة إلى انتشار الشيكات المرتجعة وعدم قدرة المواطنين والشركات على الوفاء بالتزاماتهم.
منذ بداية العام الجاري، قفز عدد الملفات الجديدة بأكثر من مليوني وستمئة ألف ملف، ليصل الإجمالي إلى ما يقارب 25 مليون قضية، ويعد هذا الارتفاع مؤشراً واضحاً على حجم الضغوط التي يتعرض لها المواطن التركي نتيجة موجات التضخم المتلاحقة التي التهمت قدرته الشرائية.
وتشير البيانات إلى أن الأشهر مارس وأبريل ويوليو شهدت أعلى معدلات تسجيل يومي للقضايا، إذ بلغ متوسط الملفات الجديدة ما بين 11,500 و12,000 ملف يومياً، وهو رقم ينذر بانهيار القدرة المالية لشرائح واسعة من المجتمع.
ديون المؤسسات والأفراد: أزمة تتسع
في موازاة ذلك، ارتفع حجم القروض المتعثرة إلى 520 مليار ليرة تركية، بينما زادت طلبات إعلان الإفلاس بنسبة 72%، ووفقاً لبيانات مركز المخاطر التابع لاتحاد البنوك التركية، فقد تجاوز عدد المدينين الذين يواجهون إجراءات قضائية لأول مرة في تاريخ البلاد مليون شخص.
ولم تتوقف الأزمة عند هذا الحد؛ فقد ارتفع عدد الأفراد الذين يواجهون ملاحقات قانونية بسبب تراكم ديون بطاقات الائتمان بنسبة 21.8%، ليصل العدد إلى مليون و262 ألف شخص، هذا الارتفاع يعكس اعتماداً متزايداً على الاقتراض لتغطية الاحتياجات الأساسية، في ظل تراجع قيمة الرواتب وارتفاع تكلفة المعيشة.
الفقر يتعمق: واحد من كل سبعة أتراك بحاجة إلى دعم اجتماعي
التوسع في الفقر دفع شريحة ضخمة من المواطنين إلى اللجوء لبرامج المساعدات الحكومية، فحسب برنامج الرئاسة التركية السنوي، ارتفع عدد الأسر التي تتلقى مساعدات اجتماعية من 4.49 ملايين أسرة في 2022 إلى 4.57 ملايين أسرة بنهاية 2024.
وهذا يعني، وفق إحصاءات هيئة الإحصاء التركية، أن واحداً من كل سبعة مواطنين يعتمد اليوم على دعم اجتماعي منتظم لتأمين احتياجاته الأساسية.
إن هذا الاعتماد الواسع على مساعدات الدولة يعكس عمق الأزمة، ويشير إلى انكماش الطبقة الوسطى وتحول جزء كبير منها إلى طبقات فقيرة أو على حافة الفقر.
الجدل السياسي يشتعل: معارضة تدعو لانتخابات مبكرة
الأزمة الاقتصادية لم تبقَ محصورة داخل الإطار الاقتصادي والاجتماعي، بل تحولت إلى محور خلاف سياسي واسع.
فزعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال، ومعه قادة أحزاب معارضة أخرى، يرون أن الحكومة الحالية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان عاجزة عن إنهاء الأزمة، وأن الحل يكمن في انتخابات مبكرة تعيد ترتيب المشهد السياسي وتمنح البلاد فرصة لتغيير سياساتها الاقتصادية.
ويعتبر المعارضون أن السياسات المالية في السنوات الأخيرة، وخاصة ما يتعلق بخفض الفائدة رغم ارتفاع التضخم، إضافة إلى غياب الشفافية، كانت عوامل أساسية في تفاقم الأزمة الحالية.
الحكومة تدافع: عام 2026 سيكون نقطة التحوّل
في المقابل، يقرّ وزير المالية والخزانة مهمت شيمشك بصعوبة الظروف الاقتصادية وبالضغوط الهائلة التي يعيشها المواطنون نتيجة التضخم المرتفع وغلاء الأسعار. لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الحكومة تسير بخطة إصلاح اقتصادي متوسطة المدى، ستبدأ نتائجها بالظهور بحلول عام 2026.
وتعتمد هذه الخطة على:
ضبط الإنفاق العام
خفض التضخم تدريجياً
تعزيز الاستثمار الأجنبي
إصلاحات ضريبية وهيكلية
إعادة الاستقرار إلى الأسواق المالية
ورغم هذه الوعود، يرى محللون اقتصاديون أن العامين القادمين سيكونان الأصعب على الأتراك، وأن الآثار الاجتماعية للأزمة ستستمر حتى بعد بدء الإصلاحات الموعودة.
أزمة مركّبة تحتاج إلى حلول جذرية
تواجه تركيا اليوم أزمة اقتصادية متعددة الأبعاد: تضخم مرتفع، بطالة متزايدة، ديون متعثرة، وانهيار القدرة الشرائية للمواطن، ومع ارتفاع عدد القضايا المالية إلى مستويات قياسية، وازدياد حالات الإفلاس، وتوسع رقعة الفقر، يبدو المشهد مرشحاً لمزيد من التوتر الاجتماعي والسياسي.
ومع غياب التوافق السياسي حول كيفية إدارة الاقتصاد، ووجود فجوة واضحة بين رؤية الحكومة والمعارضة، يبقى المواطن التركي هو الضحية الأكبر لهذه الأزمة. وحتى لو كانت وعود الإصلاح الحكومية واقعية، فإن طريق التعافي يبدو طويلاً وشاقاً، فيما يستمر المواطنون في مواجهة أعباء يومية ثقيلة قد تغير شكل المجتمع التركي لسنوات قادمة.
