الوقت- انعقدت الدورة الحادية والعشرون لمنتدى الأمن الإقليمي “حوار المنامة 2025” بإشراف المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وبمؤازرة وزارة الخارجية البحرينية، وقد ارتقى هذا المحفل عبر السنين ليتبوأ مكانةً مرموقةً بين أرفع الملتقيات الأمنية التي تنعقد سنوياً في أرجاء الخليج الفارسي.
أبصر “حوار المنامة” النور عام 2004 برعاية المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وارتقى على مدى عقدين من الزمان حتى غدا درة المنتديات السياسية والأمنية في الشرق الأوسط، وقد ابتغى منذ نشأته مدّ جسور التحاور بين الدول وأجهزة الدفاع ومنابر الفكر العالمية لاستشراف التحولات الاستراتيجية في أقاليم المنطقة.
وعلى نقيض المؤتمرات الرسمية كمنابر الأمم المتحدة أو محافل الجامعة العربية، يتسربل حوار المنامة برداء شبه رسمي، مهيئاً ساحةً يتسنى فيها لأرباب السياسة التداول في أجواء تنعم بشيء من الانطلاق حول قضايا شائكة كأمن الطاقة، وأتون النزاعات الشرق أوسطية، ومآلات العلاقات العربية-الإسرائيلية، وتنازع القوى العظمى، والمخاطر المنبثقة عن التقنيات المستحدثة.
ويعدّ منتدى المنامة من حيث تشكيلة الوافدين إليه ورفعة شأنهم، أحد أكثر المحافل الدولية الإقليمية اتزاناً، فتلاقي الفاعلين الغربيين (كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) مع أقطاب الدول العربية (كالسعودية والإمارات وقطر ومصر والبحرين)، إضافةً إلى سفراء من شرق آسيا وأفريقيا، أضفى على المؤتمر هذا العام حلةً متعددة الأقطاب، وقد احتشد في رحاب المنامة زهاء سبعمئة ضيف من خمس وستين دولة، يتصدرهم وزراء خارجية الأردن وعُمان والبحرين وبريطانيا.
ومن المعالم البارزة لهذه الدورة حضور سبعة وعشرين من أرباب السياسة والفكر الصاعدين الذين وفدوا إلى المنامة ضمن برنامج “القادة الشباب” الذي يتعهده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وتعكس هذه المبادرة تطلع المنظمين إلى صقل كوكبة جديدة من النخب الأمنية في المنطقة؛ نخب تستطيع أن تحوّل دفة خطاب الأمن من مراسيه التقليدية نحو آفاق تنموية وتكنولوجية، من ناحية أخرى، أبانت اللقاءات الثنائية المنعقدة على هامش المؤتمر - والتي ناهزت مئة وثلاثة لقاءات رسمية بين الوفود - عن الطابع العملي لهذا الملتقى.
وفي دورة 2025، تمحورت أركان المؤتمر الأساسية حول ثلاث دعائم: أولاها، إعادة صياغة مفهوم الأمن الإقليمي في ضوء المستجدات السياسية، ولا سيما في أعقاب حرب غزة وتطورات لبنان وسوريا؛ وثانيتها، سبر أغوار دور القوى العالمية في توطيد دعائم الاستقرار الإقليمي في خضم التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا؛ وثالثتها، استجلاء آفاق التعاون الاقتصادي والتقني ضمن منظومة الأمن المستجدة في أرجاء الخليج الفارسي.
ويكشف تمحيص فحوى جلسات وحوارات المنامة 2025، أن هذا المنتدى يمكن تأويله ضمن أفق استراتيجي يروم “إعادة نحت ملامح النظام في الشرق الأوسط”، فمن جانب، تسعى الدول العربية إلى الاحتفاظ بوشائج علاقاتها الأمنية مع أمريكا وأوروبا، مع انتهاج مسلك أكثر نفعيةً تجاه اللاعبين الشرقيين كالصين والهند؛ ومن جانب آخر، لا تزال مسيرة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني مدرجةً بصورة مواربة على أجندة المحافل الدبلوماسية.
وفي جوهر الأمر، يسعى حوار المنامة هذا العام أكثر من أي وقت مضى إلى تجسيد انتقال المنطقة من “منطق المجابهة” إلى “منطق ترويض التنافس”.
الوجه المستور للمؤتمر: من التطبيع إلى الناتو العربي
کشف عدد من المسؤولين العرب على هامش المؤتمر، أن مرماهم الراهن ليس مناوأة إيران، بل نسج توازن مستديم في نسيج العلاقات الإقليمية؛ توازن يقدر، إلى جانب الردع، على صون مقدرات التنمية الاقتصادية والتقنية، بيد أن مثل هذه التصريحات تتنافر عملياً مع البرامج المعلنة للعديد من المشاركين هذا العام، ويمكن اعتبار موقف مبعوثي أمريكا وبريطانيا جزءاً من خلاصة المؤتمر الكبرى.
قال ديفيد كوبر، وزير خارجية بريطانيا، خلال المؤتمر بشأن قضية غزة إن هذه البقعة ينبغي أن تنفض عنها غبار الوضع الرمادي بين الحرب والسلام، وأنها تتعطش إلى تقدم عاجل، كما صرح بأنه يتعين على حكومة جديدة أن تضطلع بمسؤولية إعادة إعمار غزة مستقبلاً وأن تُجمع الأسلحة من أيدي القوات المسلحة؛ وهو تصريح يشير صراحةً إلى تقويض الأذرع العسكرية لحماس والجهاد الإسلامي.
من ناحية أخرى، أماط توم باراك، المبعوث الأمريكي، اللثام عن جانب آخر من مخطط “الشرق الأوسط الجديد” الكبير، إذ صرح بأن لبنان دولة فاشلة والسبب في ذلك وجود حزب الله، وأضاف إن لبنان هو البلد الوحيد الذي لم يستطع بعد التواؤم مع البرامج العربية-العبرية الأمريكية، ولذلك فإن واشنطن لا تبدي ميلاً إلى ضخ الاستثمارات فيه، وحثّ باراك لبنان على التوجه نحو مفاوضات مباشرة مع الكيان الصهيوني وتبديل نهجه.
وخلافاً للدورات السالفة، تضاءل في هذا المؤتمر الاهتمام بالتحالفات العسكرية المباشرة مع الولايات المتحدة، وأضحت مفاهيم كالأمن المشترك والتعاون متعدد الأقطاب ودور القوى المتوسطة محور الاهتمام.
وفي طيات هذا المؤتمر الخافية، جرت مساعٍ حثيثة لدفع عجلة تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية و"إسرائيل" في إطار تعاون أمني غير معلن، ورغم عدم إشهار هذا الموضوع، إلا أن الجلسات الجانبية بين أركان الناتو والبحرين والأردن تطرقت إلى تنسيق الأمن البحري والاستخباراتي، وهو في حقيقة الأمر امتداد لإطار اتفاقيات أبراهام.
وفي خاتمة المطاف، يمكن للمتبصر أن يرى في هذا الاجتماع تجلياً لمساعي المحور الغربي-العربي المتآزرة صوب غايات مبيَّتة، كتشييد صرح حلف ناتو عربي لمناوأة جبهة المقاومة في ربوع المنطقة، وتعبيد الطريق نحو تطبيع الصلات مع الكيان الصهيوني إثر انجلاء غمامة الأزمة في قطاع غزة، ويبدو أن عدداً من قادة الدول العربية يرون غايتهم من الاستعجال في مباحثات وقف إطلاق النار في غزة ليس إغاثة أهلها المظلومين، بل تهيئة المناخ للتقارب مع كيان الاحتلال الصهيوني.
