الوقت – يُسجّل السودان الآن أحد أكثر الجرائم دمويةً في تاريخه الحديث، حيث أكدت الأمم المتحدة وقوع مذبحة مروّعة في مستشفى بمدينة الفاشر، أسفرت عن مقتل نحو أربعمئة وستين مريضاً ومرافقيهم، ضمن حصيلة ثقيلة تجاوزت ألفي قتيل، وفقاً لما أفادت به السلطات السودانية، وقد وقعت هذه الكارثة خلال أقل من أسبوع، إثر استيلاء ميليشيات الدعم السريع على المدينة، في مشهد مروّع يشي بحجم الفاجعة الإنسانية التي تعيشها البلاد.
وفي تطور مفجع، أعلن الجيش السوداني انسحابه من مدينة الفاشر عقب حصارٍ دام ثمانية عشر شهراً في محاولة لإحكام السيطرة عليها، لتسقط المدينة أخيراً في يد ميليشيات الدعم السريع، التي أجهزت على آخر معقل للجيش السوداني في دارفور، معلنةً خروج الإقليم بأسره من قبضة الحكومة المركزية، وأكدت مصادر طبية سودانية أن تلك الميليشيات اقتحمت مستشفىً في المدينة، لتقتل كل من وجدته داخله من مرضى ومرافقين وأطباء، غير عابئة بأي قيم إنسانية أو أخلاقية.
من وراء الإبادة الجماعية؟
الميليشيات التي ترتكب هذه الجرائم الشنيعة في مدينة الفاشر، تُنسب إلى دعم سياسي وعسكري مباشر من دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أثار هذا الدعم جدلاً واسعاً في الأوساط الدولية، حيث صرّح السيناتور الأمريكي كريس مورفي، وهو عضو ديمقراطي في الكونغرس عن ولاية كونيتيكت، قائلاً: “ثمة أدلة دامغة تثبت تورط ميليشيات الدعم السريع المدعومة من الإمارات في المجازر التي شهدتها مدينة الفاشر في دارفور، كيف يمكن للولايات المتحدة أن تسمح للإمارات، التي تستفيد من تمويلنا العسكري، بمواصلة دعم هذه القوات التي تلطخت أياديها بدماء الأبرياء؟”
ومدينة الفاشر، التي كانت يوماً رمزاً لصمود الجيش السوداني في دارفور، تقع في شمال الإقليم، وقد بلغ عدد سكانها وفق إحصاء عام 1993 نحو مئة وواحد وأربعين ألف نسمة، ليقفز العدد في عام 2007 إلى مئتين وستة وسبعين ألفاً، واليوم، بعد سقوطها بيد ميليشيات الدعم السريع في السادس والعشرين من أكتوبر، أضحت الفاشر مسرحاً لأبشع المجازر، إذ أقدمت تلك الميليشيات على إعدام أو قتل ما يزيد على 2500، بينهم 460 شخصاً كانوا يرقدون في مستشفى السعود للولادة، في مشهد يُدمي القلوب ويُرعب العيون.
لكن هذه الإبادة الجماعية ليست الأولى التي يشهدها إقليم دارفور، فقد سبق لهذه الميليشيات، حينما كانت تعرف باسم الجنجويد، أن ارتكبت مجازر مروّعة بحق سكان هذا الإقليم بين عامي 2000 و2003، حين كانت تُدار وتُموّل من نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وخلال تلك السنوات السوداء، استهدفت ميليشيات الجنجويد المدنيين العزّل بوحشية لا توصف، مخلّفةً وراءها أكثر من مئة ألف قتيل، في حملة إبادة جماعية اعتبرها العالم أجمع جريمةً ضد الإنسانية، تستوجب المحاسبة والعقاب.
وفي عام 2004، وصفت وزارة الخارجية الأمريكية وقادة دوليون قادة الجنجويد، وعلى رأسهم موسى هلال، بأنهم مجرمو حرب متورطون في جرائم إبادة جماعية، وطالب مجلس الأمن الدولي بنزع سلاح هذه الميليشيات، لكن تلك الدعوات لم تفلح في وضع حدّ لهذه الجرائم، لتعود دارفور اليوم وتعاني من المأساة نفسها.
ويبرز اسم محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي"، كأحد أبرز المتسببين في هذه الفواجع، وُلد حميدتي في عام 1974 أو 1975، وينتمي إلى قبيلة الرزيقات في دارفور، وكان أحد قادة ميليشيات الجنجويد، ليعتلي منذ ثلاث سنوات قيادة قوات الدعم السريع، التي شنّت حرباً شعواء على الحكومة السودانية، وأعادت إقليم دارفور إلى أتون جحيم الإبادة الجماعية، في ظل صمت دولي يكاد يكون تواطؤاً، وعجزاً إقليمياً عن إنقاذ من تبقى من أرواح بريئة تُزهق كل يوم بلا ذنب.
السيناريوهات المحتملة للسودان
يقبع السودان اليوم في خضم أزمة تشتد رحاها، وقد أضحى مسرحاً لتقلباتٍ دامية تهدد أركانه، ويرى كثير من الخبراء والمراقبين أن السودان، بعد ما شهدته مدينة الفاشر مؤخراً، يقف على أعتاب ثلاثة سيناريوهات محتملة، يتصدرها اشتداد وطأة الصراع العسكري، أو التوصل إلى توافقات سياسية عسيرة تجبر كسر البلاد، بينما يتمثل السيناريو الثالث في تدخل القوى الدولية والإقليمية لمقاربة الأزمة ومحاولة تطويق ألسنة اللهب التي تلتهم حاضر السودان ومستقبله.
وفي خضم هذا المشهد القاتم، ناشد وزير الإعلام السوداني خالد الأيسر المجتمع الدولي بأن يبادر إلى تصنيف ميليشيات الدعم السريع كمنظمة إرهابية، مطالباً بمحاكمة قادتها على ما اقترفوه من جرائم وانتهاكات في مدينة الفاشر، وقد وصفهم بأنهم “قتلةٌ مجرمون منزوعو الصلة بكل ما يمت إلى الإنسانية بصلة”.
على النقيض، أطلّ قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، ليعرب عن أسفه إزاء ما حدث في الفاشر، معلناً عزمه تشكيل لجنة تحقيق في تلك الأحداث، مدعياً أن الحرب فُرضت على قواته، وأضاف قائلاً: “لقد طُويت صفحة الحرب في الفاشر”، مبرزاً ضرورة عودة سكان المدينة إلى منازلهم كي تستعيد الفاشر عهدها السابق، وتخرج من بين أنقاضها التي أطبقت عليها.
من المسؤول عن الكارثة؟
في محاولة لفهم الأسباب التي أفضت إلى تصاعد التوتر في السودان، تباينت التحليلات بين رؤى متضاربة، حمل كل منها خطاباً مختلفاً يعكس وجهة نظره.
الدكتور فتحي أبو عمار، الأستاذ الجامعي، أشار في حديثه مع قناة الجزيرة إلى أن المسؤولية الكبرى عن إراقة الدماء في السودان، تقع على عاتق من سعى لتأجيج نيران الحروب المتكررة التي عصفت بالبلاد، وشدّد على ضرورة تجريم القتل غير المشروع لأي مواطن سوداني، داعياً إلى النظر إلى المشهد السوداني بوصفه كلًا متماسكاً، لا مجرد أجزاء متفرقة.
وفي حديثه ضمن برنامج “ما وراء الخبر” على الجزيرة، أشار أبو عمار إلى أن الجيش السوداني نفسه ارتكب انتهاكات مشابهة في مناطق عدة من البلاد، وأن تصنيف ميليشيات الدعم السريع كتنظيم إرهابي لن يكون السبيل لحل الأزمة، بل قد يزيدها تعقيداً، ورأى أن الجرائم المرتكبة في الفاشر، جاءت كرد فعل على ما وصفه بالإجراءات القمعية التي مارسها الجيش السوداني ضد ميليشيات الدعم السريع في عدة مناطق، مؤكداً أن المشهد السوداني يتطلب معالجةً شاملةً لا تقتصر على طرف دون الآخر.
على الضفة الأخرى، يبرز رأي الدكتور المعتصم الحسن، مستشار الأكاديمية العليا للدراسات الأمنية والاستراتيجية في مصر، الذي ألقى باللوم على الدول والمؤسسات الدولية، محملاً إياها المسؤولية عن المجازر التي شهدتها الفاشر، وأكد أن هذه الجهات اكتفت بدور المتفرج أمام ما يجري في السودان، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث سمحت بوقوع مدينة الفاشر في قبضة ميليشيات الدعم السريع وكأنها قدمتها لهم على طبق من ذهب.
واتهم الحسن قوات الناتو وقواعدها العسكرية في ليبيا بالتسبب في خلخلة صفوف الجيش السوداني، مشيراً إلى أنها قدمت دعماً عسكرياً مباشراً للميليشيات عبر إرسال الطائرات المسيّرة والمعدات الحربية لتمكينها من استهداف الجيش السوداني، وأضاف إن الجيش السوداني، رغم كل الصعوبات، اضطر إلى اتخاذ خطوة انسحاب تكتيكي نحو مناطق أكثر أمناً، مؤكداً أن العمليات العسكرية لا تزال مستمرةً، سواء على أطراف الفاشر أو عبر الضربات الجوية.
وفي معرض دفاعه عن موقف الجيش السوداني، أشار الحسن إلى أن القوات المسلحة السودانية أظهرت صموداً استثنائياً على مدى عامين، وخاضت أكثر من مئتين وثمانين معركة ضارية، غير أن التدخلات الخارجية قلبت موازين المعركة لصالح الميليشيات، واتهم الولايات المتحدة وبريطانيا بأنهما تتحملان مسؤولية الأزمة السودانية الراهنة، إذ اكتفتا بمتابعة المفاوضات دون أن تحركا ساكناً لإيقاف الدمار الذي حلّ بمدينة الفاشر.
وقد شبّه الحسن الجرائم التي وقعت في الفاشر بالإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا وسربرنيتسا، ولفت إلى أن بحيرات الدماء التي أغرقت المدينة باتت تُرى بوضوح عبر الأقمار الصناعية، مؤكداً أن هذه الانتهاكات ليست وليدة اللحظة، بل امتدت على مدار عامين كاملين، وأن مرتكبيها معروفون جيداً لدى الغرب، الذي اختار الصمت حيالها.
وفي ختام حديثه، شدّد الحسن على ضرورة أن يكون أي اتفاق مستقبلي في السودان قائماً على شروط الجيش السوداني وإرادة الشعب السوداني، مؤكداً أنه لا مكان لميليشيات الدعم السريع في مستقبل السودان، لا على الصعيد العسكري ولا السياسي، ودعا إلى إخراج الأطراف الدولية والإقليمية التي أشعلت فتيل الحرب من المشهد السوداني، مشيراً إلى أن الجيش السوداني قادرٌ على استعادة زمام الأمور، وخاصةً مع استعداد ما يزيد على مئة وعشرين ألف مواطن سوداني لحمل السلاح والمشاركة في القتال لاستعادة الفاشر، ما يجعل مستقبل ميليشيات الدعم السريع في السودان مظلماً، مهما بلغ حجم الدعم الإقليمي أو الخارجي الذي تتلقاه.
