الوقت- شهد قطاع غزة، عبر العقود الماضية، فصولاً متشابكة من الاحتلال والمقاومة، تداخلت فيها المصالح السياسية مع الحسابات الأمنية، ومع انسحاب قوات الاحتلال من القطاع، انقلبت الموازين على نحوٍ غير مسبوق، لتكشف الأحداث عن وجود مجموعات محلية ارتبطت بعلاقاتٍ مباشرة أو غير مباشرة مع الاحتلال، سواء عبر التجسس أو تقديم الخدمات الميدانية لصالحه.
لم يكن هذا المشهد وليد اللحظة، بل هو امتدادٌ طبيعي لسياساتٍ قديمة اتّبعها كل احتلال في العالم، حين يسعى لتثبيت نفوذه عبر شبكاتٍ من العملاء والمتعاونين المحليين، غير أنّ لحظة الانسحاب دوماً تكون حاسمة: فهي تضع هذه الفئات أمام مجتمعٍ يراها خائنة، وسلطةٍ جديدة ترى فيها تهديداً لأمنها الداخلي، وذاكرةٍ جماعيةٍ لا تغفر بسهولة.
المواجهة مع المتعاونين: بين العدالة والانتقام
عقب الانسحاب، سارعت السلطات المحلية في غزة إلى ملاحقة أولئك الذين وُصفوا بأنهم أدوات الاحتلال، وتم توجيه تهمٍ تتعلق بالتجسس، والمساعدة في اغتيالات، وإثارة الفوضى الأمنية. لكن هذه الحملة أثارت جدلاً واسعاً: فبين من يراها ضرورةً وطنيةً لتطهير المجتمع من الاختراقات الأمنية، ومن يعتبرها حملة انتقامية تُغلفها شعارات العدالة، ظلّ السؤال الأخلاقي والسياسي مطروحاً بقوة: كيف يمكن لمجتمعٍ خرج من تحت الاحتلال أن يوازن بين القصاص والمصالحة، بين الأمن والرحمة؟
في كثيرٍ من الحالات، كانت مصائر المتعاونين مأساوية، بعضهم فرّ إلى الخارج، وبعضهم قُبض عليه وواجه أحكاماً قاسية، وآخرون اختاروا الصمت والاختفاء داخل مجتمعٍ لا يغفر بسهولة لمن تلوثت أيديهم بخدمة العدو، المشهد في غزة لم يكن استثناءً، بل تكراراً لتجارب شهدتها بلدان أخرى بعد زوال الاحتلال.
روايات متضاربة بين الداخل والخارج
الإعلام الغربي، في مقاربةٍ مغايرة، حاول أن يصوّر المشهد في غزة على أنه صراع داخلي أو حتى حرب أهلية. غير أنّ هذا التوصيف، حسب التحليلات الإقليمية، يتجاهل جذور الأزمة الحقيقية: فالمسألة ليست نزاعاً على السلطة فحسب، بل هي تسويةٌ مع مرحلة الاحتلال نفسها، بكل ما حملته من جراحٍ وانقساماتٍ نفسية واجتماعية.
إنّ توصيف الأحداث على أنها حرب أهلية يتغافل عن البعد الأعمق، وهو أنّ الاحتلال ترك وراءه شبكاتٍ بشرية مزروعة في قلب المجتمع، وظيفتها كانت تسهيل السيطرة، وجمع المعلومات، وإضعاف الروح المعنوية للشعب، وبالتالي، فإنّ معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم إلا من خلال مقاربةٍ وطنيةٍ شاملة، لا من خلال تصويرها كصراعٍ داخلي بين فصائل أو جماعات.
منطق التاريخ: الاحتلال يرحل والمأجورون ينهارون
في قراءةٍ تاريخيةٍ أوسع، يظهر أنّ مصير المتعاونين مع المحتلين في أيّ زمانٍ ومكانٍ واحدٌ تقريباً: العزلة والسقوط. من فيتنام إلى الجزائر، ومن أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الشرق الأوسط اليوم، لم تكن نهاية المتعاونين سوى الهروب أو المحاكمة أو الإعدام المعنوي والاجتماعي.
الاحتلال يستعملهم كأدوات مؤقتة، ثم يتخلى عنهم حين تتغير الظروف، وحين يزول الغطاء الذي حماهم، يجدون أنفسهم في مواجهة مجتمعٍ لا ينسى، وسلطةٍ تريد إثبات شرعيتها من خلال معاقبة من خانوا الوطن.
بهذا المعنى، لا تبدو مأساة المتعاونين في غزة استثناءً، بل هي حلقةٌ جديدة في سلسلةٍ طويلة من مصائر المأجورين الذين يراهنون على قوةٍ غريبةٍ لا تدوم، فالتاريخ لا يحفظ أسماءهم إلا في هوامش الخيانة، ولا يذكرهم إلا كعِبرٍ لمن يأتي بعدهم.
البعد النفسي والاجتماعي: جرحٌ لم يلتئم بعد
تجاوزت آثار هذه الظاهرة الجانب الأمني إلى عمق المجتمع الفلسطيني، فالتعاون مع الاحتلال ترك ندوباً عميقةً في النسيج الاجتماعي: شكوكٌ بين الجيران، قطيعةٌ بين الأسر، ومناخٌ من الخوف والريبة.
ومع أنّ العدالة مطلبٌ مشروع، إلا أنّ إدارة هذا الملف المعقد تتطلب حكمةً تفوق الغضب، لأنّ الانتقام وحده لا يرمّم المجتمعات، ما تحتاجه غزة كما غيرها من المجتمعات الخارجة من الاحتلال هو عملية تطهيرقانونية ونفسية، تُعيد تعريف معنى الانتماء، وتفتح باب الغفران المشروط بالتوبة والاعتراف.
العدالة الحقيقية ليست فقط في معاقبة الخائن، بل في منع تكرار الخيانة، عبر بناء وعيٍ وطني يحصّن المجتمع من الاختراق، ويُعيد الثقة بين المواطن وسلطته.
ما بعد الأزمة: نحو رؤية وطنية جديدة
اليوم، بينما يعيش قطاع غزة ظروفاً إنسانية وأمنية بالغة الصعوبة، تبدو الحاجة ملحّةً لإعادة صياغة مفهوم الأمن الوطني بما يتجاوز منطق الانتقام ويستند إلى المصالحة والمساءلة القانونية.
إنّ بناء المستقبل لا يتحقق إلا بقطعٍ واضحٍ مع ماضي التبعية، وبالقدرة على تحويل دروس الألم إلى قوةٍ للتماسك، فالمتعاونون مع الاحتلال رحلوا أو انتهوا، لكن آثارهم لا تزال ماثلة في الذاكرة، والتحدي الحقيقي هو كيف يمكن لمجتمعٍ عانى من الاحتلال أن يُعيد تعريف نفسه، لا كضحيةٍ فقط، بل كصاحب مشروعٍ وطنيٍّ قادرٍ على تجاوز الجراح.
خلاصة المشهد
قصة المتعاونين مع الاحتلال في غزة ليست مجرد حكايةٍ أمنيةٍ أو حدثٍ سياسيٍ عابر، بل مرآةٌ تعكس عمق الصراع بين الولاء والخيانة، بين الحرية والهيمنة، بين الماضي والمستقبل. لقد انتهى زمن الاحتلال المباشر، لكن معركته النفسية والفكرية لا تزال مستمرة، فالمجتمع الذي يريد النهوض لا بد أن يواجه ظلال تلك المرحلة بشجاعةٍ وصدقٍ، لا بالخوف ولا بالانتقام، بل بإرادةٍ تصنع مستقبلاً جديداً لا مكان فيه لمن يبيع وطنه بثمنٍ بخس.
