الوقت- تعيش الساحة الغزية منذ أشهر على وقع جدل متصاعد حول ما باتت توصف بـ «العصابات الجنائية» التي ظهرت في عدد من مناطق القطاع خلال الأشهر الأخيرة، في ظل الحرب المستمرة بين الاحتلال وحركة حماس، وما خلّفته من فوضى أمنية وانهيار للبنى الإدارية والمؤسساتية، وتتهم حركة حماس جهات خارجية، في مقدمتها "إسرائيل"، بالوقوف وراء إنشاء هذه العصابات وتمويلها وتسليحها، بهدف زعزعة الأمن الداخلي وتمزيق النسيج الاجتماعي في غزة. فيما يرى مراقبون أن هذه الظاهرة تمثل أحد أوجه التبعات الأمنية والاجتماعية للحرب الطويلة، التي جعلت القطاع ساحة مفتوحة للانفلات الأمني والاستقطاب الداخلي.
تشير تقارير إعلامية متعددة إلى أنّ جماعات مسلحة محلية بدأت تتشكل في مناطق متفرقة من غزة، بعضها تحت مسميات مثل «القوات الشعبية» و«قوة مكافحة الإرهاب»، ويُعتقد أنها تعمل بمعزل عن سلطة حماس أو حتى في مواجهة مباشرة معها، صحيفة ذي إندبندنت البريطانية نقلت أن بعض هذه المجموعات أعلنت نيتها تولي إدارة مناطق انسحبت منها قوات ااحتلال الإسرائيلية مؤقتًا، في خطوة أثارت مخاوف من نشوء قوى موازية قد تتحول لاحقًا إلى مليشيات محلية منظمة، وفي المقابل، نفت تلك الجماعات ارتباطها بـ"إسرائيل"، معتبرة نفسها جزءًا من المقاومة المجتمعية المحلية، بينما تؤكد حماس أن معظم أفرادها متورطون في أعمال نهب وتخريب وتعاون أمني مع الاحتلال.
في يونيو 2025، أقرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حديث صحفي بأن إسرائيل “فعّلت بعض العشائر الفلسطينية المعادية لحماس داخل القطاع”، في إشارة فسّرها مراقبون بأنها تلميح إلى دعم غير مباشر لتلك الجماعات، كما نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تقريرًا أشارت فيه إلى أنّ "إسرائيل" تدعم ميليشيات محلية مرتبطة بشبكات تهريب وجريمة منظمة، تحت ذريعة مواجهة حماس وإضعاف سيطرتها على غزة، أما صحيفة نيويورك بوست الأمريكية فقد تحدثت عن تزويد "إسرائيل" بعض المجموعات بالسلاح والمعدات، بما فيها جماعات اتُّهمت لاحقًا بنهب شاحنات المساعدات الإنسانية.
وفي مواجهة هذا الواقع، أعلنت وزارة الداخلية التابعة لحماس في مطلع عام 2024 تشكيل وحدات أمنية جديدة تحت مسميات “سهم” و“ردع”، هدفها ملاحقة ما وصفته بالعناصر الإجرامية والمتعاونين مع الاحتلال، وشهد العام نفسه تنفيذ سلسلة من العمليات الأمنية ضد مجموعات مسلحة في مدينة غزة ورفح وخان يونس، انتهت باعتقال العشرات من المتهمين بالتورط في التعاون مع الاحتلال أو في عمليات نهب المساعدات، وفي مايو 2025، أكدت وكالة رويترز تنفيذ حماس أحكامًا ميدانية بحق عدد من الأفراد الذين أدينوا بسرقة مساعدات غذائية وقتل عناصر من الأجهزة الأمنية، في ظل تدهور الوضع الإنساني جراء الحصار الإسرائيلي الممتد.
تعدّ هذه الظاهرة انعكاسًا مباشرًا للفوضى التي أفرزتها الحرب، فمع تفكك البنى الأمنية التقليدية وتراجع سلطة القانون، وجدت بعض المجموعات فرصة لتشكيل كيانات مسلحة تجمع بين النشاط الإجرامي والمصالح السياسية، ويقول محللون إن هذه العصابات تمثل “نموذجًا كلاسيكيًا للفوضى الموجهة” التي تلجأ إليها قوى الاحتلال أحيانًا لخلق بيئة داخلية مشوشة تسهل السيطرة من الخارج، وتذهب بعض التحليلات إلى أن دعم "إسرائيل" لتلك الجماعات – سواء بشكل مباشر أو عبر قنوات غير رسمية – يندرج ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى تفكيك سلطة حماس وتشويه صورتها كقوة حاكمة.
من الناحية الأمنية، يمثّل انتشار هذه العصابات تحديًا وجوديًا لحماس التي بنت شرعيتها على فكرة “الانضباط والمقاومة والنظام”، إذ إن فقدان السيطرة على الأرض أو السماح بقيام مجموعات مسلحة موازية يضعف مكانتها أمام السكان، وقد أشارت الجزيرة في تقرير لها بتاريخ الـ 19 من أكتوبر 2025 إلى أن حماس تعتبر تلك الجماعات تهديدًا للأمن الوطني، وتؤكد أنها ستتعامل معها كما تتعامل مع العملاء والخونة، داعية المواطنين إلى التعاون مع الأجهزة الأمنية في الإبلاغ عن أي تحركات مشبوهة، وتضيف القناة إن الحركة ترى في هذه المواجهة «معركة داخلية لا تقل أهمية عن الحرب مع الاحتلال»، لأنها تحدد مستقبل القطاع بعد الحرب.
أما على الصعيد الإنساني، فقد ساهمت هذه الفوضى في تفاقم الأوضاع المعيشية، إذ أفادت تقارير أممية بأن أكثر من 90 في المئة من شاحنات المساعدات القادمة عبر معبر كرم شالوم في نوفمبر 2024 تعرضت لعمليات نهب جزئية أو كلية، ما أدى إلى حرمان آلاف الأسر من الغذاء والدواء، واعتبرت مؤسسات الإغاثة الدولية أن فقدان الأمن هو العامل الأبرز في فشل عمليات التوزيع داخل القطاع، هذه الممارسات، التي تورطت فيها بعض العصابات المحلية، عمقت الانقسام بين الفصائل وبين العشائر، وأوجدت سوقًا سوداء تزدهر فيها تجارة المواد الإغاثية.
في ظل هذه المعطيات، يواجه المجتمع الغزي مسؤولية جسيمة في حماية نسيجه الداخلي، فمحاربة العصابات لا يمكن أن تكون مسؤولية أمنية بحتة، بل تحتاج إلى مشاركة المجتمع المدني والعائلات والمؤسسات الدينية والإعلامية، لتعزيز ثقافة القانون والشفافية ورفض مظاهر الانقسام والعمالة، ويؤكد محللون أن قدرة غزة على تجاوز هذه المرحلة تتوقف على مدى وعي سكانها بخطورة الانجرار وراء التحريض الداخلي أو المصالح الفردية، لأن المعركة ضد الفوضى لا تقل أهمية عن المعركة ضد الاحتلال.
المشهد الراهن في غزة يعكس صراعًا مركبًا بين الاحتلال الخارجي والانقسام الداخلي، وأن العصابات التي ظهرت في القطاع ليست مجرد ظاهرة جنائية عابرة، بل أداة سياسية وأمنية تُستخدم لتقويض أي مشروع وطني موحد، كما أن مواجهة هذه الظاهرة لا تتحقق عبر القوة وحدها، بل عبر إعادة بناء الثقة بين المواطنين والسلطة المحلية، وإصلاح مؤسسات الحكم بما يعيد الاعتبار للعدالة والمساءلة، إن خطورة المرحلة تكمن في أن الفوضى قد تُستخدم ذريعة لتدخلات خارجية تحت عنوان “حماية المدنيين” أو “ضبط الأمن”، وهو ما يهدد بفقدان السيادة الفلسطينية على القطاع، لذلك، فإن الواجب الوطني والأخلاقي يقتضي أن تتكاتف الجهود بين حماس وسائر الفصائل والمجتمع المدني، لتطهير القطاع من كل ما يعبث باستقراره ويخدم مصالح العدو، لأن مستقبل غزة لا يُبنى بالسلاح وحده، بل بالوحدة والوعي والتنظيم.