الوقت- لإماطة اللثام عن خفايا اتفاق السلام ووقف إطلاق النار الأخير في قطاع غزة، وكشف النقاب عن دور الولايات المتحدة في إبرام هذا الاتفاق، عقدنا لقاءً مع المحلل البارز للشؤون الإقليمية الدكتور “جواد معصومي”.
“الوقت”: ما الدوافع الخفية والعوامل الجلية التي أرغمت الكيان الصهيوني ونتنياهو على الانصياع للاتفاق بعد طول مماطلة وتسويف؟
معصومي: ينبغي لنا أن ننظر إلى قبول الكيان الصهيوني للاتفاق الأخير لا باعتباره ثمرة إرادة طائعة، بل نتاج اضطرار قاهر أملته على أركان صنع القرار في الكيان حقائق الميدان الدامغة والمعطيات الاستراتيجية الساطعة، فقد تضافرت جملة من التحولات المتزامنة على ثلاثة مستويات - ميدانية وسياسية ودولية - لتنقل الكيان من موقف المهاجم المتغطرس إلى خندق المدافع المتوجس، ثم أفضت به إلى مرحلة الرضوخ المذعن للاتفاق المفروض عليه فرضاً.
على صعيد الميدان، باءت بالفشل الذريع عمليات جيش الاحتلال الواسعة النطاق الباهظة التكلفة في أرض غزة، رغم استعانته بالعون الاستخباري واللوجستي الأمريكي الذي لا ينضب معينه، في تحقيق أي من غاياته المعلنة، فالبنية العسكرية للمقاومة، على الرغم من سيل الهجمات المتدفق، لم تتداع أركانها فحسب، بل أثبتت قدرتها الفذة على الاحتفاظ بزمام القيادة والاتصال والرد المتبادل، ما أماط اللثام عن حقيقة ساطعة مفادها بأن قوة الردع لم تعد حكراً على الكيان الصهيوني، هذه الحقيقة الناصعة رسخت مفهوم الهزيمة الاستراتيجية في المستوى العملياتي ترسيخاً لا مراء فيه.
وعلى الصعيد السياسي الداخلي، شهد الائتلاف الحاكم في الكيان تصدعاً هائلاً وانشقاقاً بيناً، فرئيس الوزراء، الرازح تحت وطأة ضغط مزدوج من التيارات المتطرفة المتعطشة للدماء من جهة والاحتجاجات الشعبية العارمة من جهة أخرى، فقد فسحة المناورة واتخاذ القرار، وفي خضم هذا المشهد المضطرب، استفحلت أزمة الثقة بين المؤسسات الأمنية والسياسية في الكيان استفحالاً خطيراً، وتحول “استمرار آلة الحرب” من خيار استراتيجي إلى تهديد داخلي يقوّض أركان الكيان.
أما على الصعيد الدولي، فقد غيرت الولايات المتحدة، بوصفها المحرك الأول لعجلة الأزمة والداعم البنيوي للكيان الصهيوني، بوصلة استراتيجيتها من “الدعم المطلق غير المشروط” إلى “تدبير تداعيات الهزيمة النكراء” بعد تآكل القدرة العملياتية لتل أبيب تآكلاً مريعاً، فتدخل واشنطن في مسار الاتفاق لم يكن غايته إخماد نيران الأزمة، بل كان مرماه السيطرة على الأضرار الاستراتيجية المترتبة على استمرارها، من هذه الزاوية، كان دور أمريكا في الاتفاق الأخير محاولةً يائسةً للحيلولة دون انتشار رقعة الهزيمة إلى الأبعاد الإقليمية، أكثر منه نصرةً للكيان المتهاوي.
زبدة القول في هذه المستويات الثلاثة أن الكيان الصهيوني، تحت الضغط متعدد الأبعاد وتآكل ميزان الإرادات، اضطر اضطراراً إلى القبول بالاتفاق صاغراً، هذا القرار المصيري يعكس في جوهره انتقالاً تدريجياً لزمام المبادرة من آلة الحرب الصهيونية إلى محور المقاومة الصلب، وبعبارة أدق وأبلغ، الاتفاق الأخير ليس وليد حسابات مصلحية للكيان الصهيوني، بل هو نتاج إجباري للهزيمة الساحقة في ميادين القتال والسياسة والردع؛ اتفاق لم يفعل سوى صياغة الشكل القانوني لحقيقة عسكرية دامغة.
“الوقت”: إلى أي مدى يتماهى هذا الاتفاق مع الخطة الأمريكية الأصيلة، وهل تمكنت المقاومة من فرض إرادتها على الطرف المناوئ؟
معصومي: يحمل الاتفاق الأخير في ظاهره بعض ملامح التشابه الشكلية مع الخطة الأولية التي طرحتها الإدارة الأمريكية السابقة؛ منها تقسيم التنفيذ إلى مراحل متعاقبة، والدور الوسيط للولايات المتحدة وثلة من دول المنطقة، والتركيز على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في المراحل الأولى من التنفيذ، غير أنه على مستوى الجوهر والاستراتيجية، نأى هذا الاتفاق بنفسه نأياً تاماً عن المنطق الأصلي لواشنطن وسلك سبيلاً معاكساً لأهدافها المبيتة.
لقد نُسجت الخطة الأمريكية الأولية بخيوط ماكرة بغية احتواء المقاومة تدريجياً، وإيجاد آلية إدارة دولية لغزة، وتمهيد السبيل لنزع سلاح فصائل المقاومة، بيد أن مسار الحرب الميداني وصمود المقاومة الأسطوري، أفضيا إلى تحول جذري في هذه الخطة عند التطبيق العملي، فما يُعرف اليوم باتفاق مقبول من الطرفين هو في حقيقته نتيجة مباشرة لعجز الكيان الصهيوني عن تحقيق غاياته المعلنة، وفرض إرادة المقاومة الصلبة في ساحة الحرب.
في هذا الاتفاق المصيري، تم قبول الوقف التام للعمليات العسكرية للكيان وبدء الانسحاب المرحلي لقواته كشرط أولي لتنفيذ البنود الأخرى، ولا تلوح في أفق الاتفاق أي إشارة ملزمة لنزع السلاح أو نشر قوات أجنبية في قطاع غزة، وتم إرجاء تحديد مصير إدارة القطاع إلى مراحل لاحقة ومفاوضات منفصلة، وبهذا النهج الحكيم، استطاعت المقاومة ترسيخ مبدأ الحفاظ على قدرتها الردعية، ودورها الفيصل في مستقبل غزة في نص الاتفاق ترسيخاً راسخاً.
علاوةً على ذلك، أعيدت صياغة معادلة تبادل الأسرى لصالح المقاومة صياغةً محكمةً، فالإفراج الواسع عن الأسر الفلسطينيين مقابل عدد محدود من رهائن الكيان المحتل، لم يقلب موازين القوى النفسية والسياسية لصالح المقاومة فحسب، بل برهن على أن زمام المبادرة في هذا الملف الشائك بات في قبضتها الحديدية.
من ناحية أخرى، غيّر التركيز على إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية في المرحلة الأولى من التنفيذ، بوصلة السردية الدولية من “النصر العسكري المزعوم للكيان الصهيوني”، إلى “ضرورة وقف المأساة الإنسانية المروعة”؛ وهو أمر جرّد العمل العسكري للكيان الصهيوني من رداء المشروعية عملياً.
يمكننا أن نجزم بأن الاتفاق الأخير أمريكي الملامح، لكنه في جوهره وحقيقته ثمرة يانعة لإرادة المقاومة الصلبة. واشنطن التي رامت في بداية الأمر فرض مخططها بالقوة القاهرة، آثرت في نهاية المطاف أن تلملم شتات هزيمة حليفها في أرض غزة.
ما يتراءى للناظر في الظاهر اتفاقاً سياسياً بين الفرقاء، هو في حقيقة الأمر الصورة القانونية لواقع ميداني نحتته المقاومة بدماء شهدائها وصبر مجاهديها؛ واقع تهاوت فيه قدرة الكيان الصهيوني على الردع وانتقلت فيه دفة المبادرة الاستراتيجية إلى محور المقاومة.
“الوقت”: ماذا يقول الاتفاق بشأن مستقبل المقاومة في إدارة غزة وخصوصاً سلاح حماس، وما تقييمكم لنظرة حماس تجاه ذلك؟
معصومي: تجنب الاتفاق الأخير التطرق إلى القضايا السيادية والأمنية بعيدة المدى، بما فيها مسألة إدارة غزة ووضع تسليح المقاومة، وهذا التجنب ليس وليد غفلة أو سهو، بل هو ثمرة مباشرة لتبدل موازين القوى في ساحة الحرب، وعجز الكيان الصهيوني عن فرض مطالبه الاستراتيجية.
من هذا المنظور، فإن طيّ صفحة البنود المتعلقة بنزع السلاح أو نشر قوات أجنبية في غزة، يعكس الإقرار الضمني بدور المقاومة كلاعب مهيمن ميدانياً وسياسياً في هذه البقعة، ففي إطار المرحلة الأولى من الاتفاق، لا تلوح في الأفق أي إشارة إلى التزام المقاومة بتقييد قدراتها العسكرية، على النقيض من ذلك، نُسجت بنية النص بحيث يكون وقف الاشتباكات والانسحاب المرحلي لقوات الكيان شرطاً أولياً لتنفيذ البنود الأخرى، بما فيها تبادل الأسرى ودخول المساعدات الإنسانية.
هذا النسق من الالتزامات يعني في جوهره أن القدرة الردعية للمقاومة قد نالت القبول كعنصر فيصل في إدارة الأزمة، وضامن أمين لتنفيذ الاتفاق، وهذا تحول جذري في منطق التفاعلات الأمنية حول غزة، إذ للمرة الأولى في تاريخ الصراع تُعتبر الأداة العسكرية للمقاومة ليس شوكةً في خاصرة الأمن، بل ركناً أساسياً في معادلة الاستقرار الإقليمي.
وفي البعد السيادي أيضاً، يفتقر الاتفاق الراهن إلى أي بند ملزم بشأن نقل السلطة أو إقامة آلية بديلة لإدارة شؤون غزة، وبناءً على ذلك، ستظل إدارة القطاع عملياً في فلك المقاومة، رغم احتمال إنشاء ترتيبات في مراحل لاحقة، بمشاركة هيئات محلية أو إقليمية لإدارة الخدمات العامة بغية تخفيف وطأة الضغوط الإنسانية والدولية، بيد أن هذه الترتيبات لن تبدل الطبيعة السيادية للمقاومة، وعلى الأرجح ستبقى في دائرة التنسيقات التنفيذية.
ومن المنظور الاستراتيجي البعيد المدى، تنظر حماس إلى هذا الاتفاق نظرةً ثاقبةً تجمع بين التثبيت وإعادة البناء. فقادة هذه الحركة المجاهدة يعتبرون الاتفاق ليس خاتمة المطاف في الصراع المرير، بل محطة مؤقتة لإعادة ترتيب القدرات العسكرية والسياسية، وهذا الفهم العميق للاتفاق يستند إلى المبادئ الراسخة نفسها لمحور المقاومة، التي ترى في استدامة القدرة الردعية ضماناً أكيداً للحفاظ على المكاسب السياسية.
في واقع الأمر، دخلت حماس بقبولها وقف إطلاق النار في مرحلة من الإدارة الاستراتيجية الحكيمة لترميم البنى التحتية المنهكة، وإعادة بناء القدرة القتالية المتجددة، وإعادة تعريف المكانة السياسية في بيئة ما بعد الحرب الضروس، مع الحفاظ على مستوى الردع وتعزيزه.
ويمكن القول بكل ثقة إن الاتفاق الأخير، في مضمار مستقبل المقاومة ووضع سلاح حماس، ليس تهديداً يحدق باستمرار القوة العسكرية والسياسية للمقاومة، بل هو دليل ساطع على القبول الضمني بها من قبل الطرف المناوئ، ومن هذه اللحظة التاريخية فصاعداً، ستكون أي محاولة لتغيير معادلة إدارة غزة أو تقييد القدرة التسليحية للمقاومة، ممكنة فقط عبر تغيير جذري في التوازن الميداني؛ وفي ظل الظروف الراهنة، هذا التوازن يميل بوضوح جلي لصالح محور المقاومة.
“الوقت”: تتصدر قضية مدى الوثوق بالتزام الكيان الصهيوني بتعهداته بعد استرداد أسراه واجهة المشهد، كيف ترون مصداقية الضمانات المقدمة في هذا المضمار؟
معصومي: تستدعي قراءة مصداقية الضمانات المتصلة بالاتفاق الأخير، تمييزاً دقيقاً بين صنفين من العهود: أولاهما الضمانات السياسية والقانونية التي نُسجت خيوطها في الظاهر بأيدي الوسطاء الأمريكيين والقطريين والمصريين، وثانيهما الضمانات الحقيقية النافذة المتجذرة في توازن القوى والردع الميداني.
تنطق شواهد العقود الغابرة في التعامل مع الكيان المحتل، بحقيقة ناصعة مفادها بأن العهود من الصنف الأول تفتقر إلى المصداقية منفردةً، لانعدام آليات الإلزام وتاريخ الكيان الحافل بنكث المواثيق وخرق العهود، فالولايات المتحدة في هذا المشهد لا تتقمّص ثوب الوسيط المحايد، بل هي سند الكيان الصهيوني وظهيره الركين، وغاية واشنطن ليست إحكام تنفيذ الاتفاق بقدر ما هي تطويق تداعيات هزيمة حليفها والحد من انتشار نيران الأزمة؛ وعليه، لا يسوغ اعتبار الضمانات السياسية الأمريكية سنداً تنفيذياً راسخاً.
من منظور استراتيجي ثاقب، العامل الرادع الحقيقي الوحيد الذي يقف سداً منيعاً أمام تنصل الكيان الصهيوني من بنود الاتفاق، هو ميزان القوى الراجح وقدرة محور المقاومة على الرد الصاعق، بعبارة أكثر جلاءً، إذا نكث الكيان بعهوده عقب استرداد أسراه أو استأنف عدوانه العسكري، فالمقاومة وحدها بسطوتها الميدانية وقبضتها الرادعة هي القادرة على تجريعه كأس تكلفة هذا النكث والعدوان، لذا، يمكن القول بكل يقين إن القدرة الميدانية للمقاومة تشكّل في جوهرها الآلية الرئيسية والضمانة الكبرى لتنفيذ الاتفاق.
إلى جانب هذا الواقع الميداني، يمثّل الاضطراب السياسي المستشري في دهاليز تل أبيب عاملاً آخر يقوض أركان الثقة بهذا الاتفاق، فالتصدعات العميقة التي تنخر جسد الائتلاف الحاكم، وضغط الرأي العام الهادر، وتآكل شرعية رأس الهرم السياسي، أفضت جميعها إلى افتقار صناعة القرار في الكيان الصهيوني إلى التماسك والاستمرارية، وفي ظل هذه الأجواء المضطربة، حتى لو تعالت أصوات المؤسسات الدولية أو الوسطاء مطالبةً بالتنفيذ الكامل للاتفاق، فإن الطرف الإسرائيلي يعجز عن الوفاء بالتزاماته.
استناداً إلى ما سلف، يمكن استخلاص أن المصداقية الجوهرية للاتفاق لا تستمد قوتها من التواقيع السياسية، بل من صيانة توازن القوى واستدامة ردع المقاومة، فمتى أيقن الكيان الصهيوني أن نقض الاتفاق سيكبده من الخسائر أضعاف ما يجنيه من تنفيذه، سيرضخ لبنوده صاغراً، أما إذا استشعر وهناً أو ظفر بدعم مطلق من واشنطن، فستتضاعف احتمالات التنصل والإجرام والارتداد إلى النهج العدواني.
صفوة القول، إن آلية ضمان هذا الاتفاق ليست خارجيةً ولا قانونيةً، بل داخلية ورادعة في صميمها، فاستمرار وقف إطلاق النار وتنفيذ الالتزامات، سيتواصل فقط طالما حافظ محور المقاومة على جاهزيته وقدرته على الرد الحاسم، وظلت فاتورة الخرق باهظة التكلفة على الدوام بالنسبة للكيان الصهيوني.
“الوقت”: هل ينبغي تأويل اتفاق السلام وإنهاء حرب غزة كمؤشر على انحسار موجة التوتر التي يؤججها الكيان في المنطقة، أم ستواصل حكومة نتنياهو نسج خيوط الأزمات؟
معصومي: الاتفاق الأخير في ملف غزة، وإن أفضى إلى تعليق مؤقت للعمليات العسكرية، لا يصحّ بحال من الأحوال اعتباره برهاناً على تحول في جوهر سلوك الكيان الصهيوني أو نمطه الاستراتيجي، فوقف الحرب هو في حقيقة الأمر ثمرة عجز الكيان عن مواصلة المعركة باهظة التكلفة ووصوله إلى نفق مسدود ميدانياً، لا نتاج تحول في بوصلة حساباته الأمنية أو نزوع حقيقي نحو السلام.
من هذا المنظور، يمثّل الاتفاق الراهن مجرد استراحة محارب في استراتيجية تل أبيب المتأججة بالأزمات، وليس تحولاً جذرياً نحو سلوك يقوم على دعائم الاستقرار والتعايش، في المدى المنظور، يُرتقب أن يتجنب الكيان الصهيوني تصعيد المواجهات العسكرية المباشرة سعياً لترميم صورته المتصدعة داخلياً وتطويق الضغوط الدولية، بيد أنه على المستوى المتوسط، سينبعث منطق الكيان السلوكي المؤسس على “توليد الأزمات المتتالية لصيانة الردع” من رماده مجدداً.
في الواقع، كيان شيّد بقاءه وتماسكه السياسي على صخرة استمرارية اختلاق التهديدات، لا يمكنه المكوث في واحة الهدوء المستدامة، من الناحية البنيوية، ستتحكم ثلاثة متغيرات جوهرية في مسار سلوك الكيان المستقبلي:
أزمة الشرعية الداخلية المستفحلة وهشاشة الحكومة الحالية: نتنياهو وائتلافه المتطرف مضطران اضطراراً لاستعراض قوة هجومية وإعادة تشكيل صورة البأس منعاً للانهيار السياسي المحدق.
ضرورة استعادة هيبة الردع المتهاوية: أفضت الهزيمة النكراء في غزة إلى تآكل خطير في مصداقية الكيان العسكرية؛ لذا، تلوح في الأفق ضربات محدودة ومركزة في جبهات ثانوية كلبنان وسوريا بهدف إحياء قدرة الردع المتداعية.
الاطمئنان إلى استمرارية الدعم الأمريكي: الشعور بديمومة الدعم الأمريكي المطلق سيمهد الطريق لاستئناف السلوك المغامر المزعزع لأركان الاستقرار.
في خضم هذه المعطيات، يُرجح أن يتبنى الكيان الصهيوني في حقبة ما بعد الاتفاق نمط التوترات المضبوطة والإجراءات المحدودة القابلة للإنكار، عوضاً عن الاشتباك الشامل، قد تتضمن هذه الإجراءات عمليات استخباراتية وسيبرانية مستترة، وضربات نوعية خاطفة ضد بنى محور المقاومة التحتية، واستفزازات أمنية متقنة في الضفة الغربية والحدود الشمالية، والغاية من هذا النهج ستكون استعادة هيبة الردع المفقودة دون الانزلاق إلى أتون حرب شاملة.
من منظور استراتيجي شامل، سيفضي هذا الاتفاق إلى انحسار مؤقت في أوار المواجهات، لكنه لن يضع حداً لمنطق افتعال الأزمات المتأصل في جينات الكيان الصهيوني، فطالما ظلت بنية السلطة في تل أبيب قائمةً على تحالفات متطرفة وسياسة البقاء عبر اختلاق التهديدات، سيستمر سلوك الكيان الإقليمي في فلك “عدم الاستقرار المنضبط”.
نتيجةً لذلك، يتعين اعتبار خفض التوتر الراهن هدنةً مؤقتةً وتكتيكيةً محضةً، لا تحولاً جذرياً في نسيج سلوك الكيان. في خاتمة المطاف، يمكن القول: رغم أن الاتفاق الأخير ألجم ألسنة نيران الساحة العسكرية مؤقتاً، تظل الطبيعة الأمنية للكيان الصهيوني متجذرةً في توليد الأزمات وافتعال التهديدات، لذا، لا يمكن تصور استقرار راسخ في المنطقة إلا إذا حافظ محور المقاومة على يقظته واستدامة ردعه الفعال، وأبقى فاتورة أي عودة للكيان إلى السلوك العدواني باهظةً بشكل جلي وقاطع.
“الوقت”: لطالما توعد حلفاء نتنياهو المتطرفون بإسقاط الحكومة إذا توقفت رحى الحرب قبل استئصال شأفة حماس، ما مصير حكومة نتنياهو في أعقاب هذا الاتفاق؟
معصومي: يتعين النظر إلى الاتفاق الأخير ليس فقط كمنعطف تاريخي في المشهد الميداني، بل كفاتحة لفصل جديد من فصول الأزمة في بنية السلطة لدى الكيان الصهيوني، فقد أُبرم هذا الاتفاق في ظرفٍ كانت فيه الحكومة المتربعة على عرش تل أبيب قد شيدت صرح شرعيتها خلال الأشهر المنصرمة على دعامة استمرار الحرب وتحقيق غاية “الاستئصال التام للمقاومة”، لذا فإن الرضوخ لوقف إطلاق النار وتحرير الأسرى دون بلوغ تلك الغاية، يمثّل إقراراً ضمنياً بالهزيمة الاستراتيجية وانكفاءً عن المواقف المعلنة للحكومة؛ وهو أمر ستتجلى آثاره الوخيمة على استقرار الائتلاف الحاكم المتهاوي.
تواجه بنية السلطة في الكيان الصهيوني راهناً ضغطين متوازيين قاهرين: من جانب، ضغط داخلي متفاقم نابع من انعدام الثقة العامة، وأزمة الشرعية السياسية المستفحلة، وسهام النقد اللاذعة من المؤسسات العسكرية تجاه أسلوب إدارة الحرب؛ ومن جانب آخر، ضغط خارجي متصاعد ناجم عن متطلبات تنفيذ الاتفاق ورقابة الوسطاء الصارمة. هذان الضغطان مجتمعين كبّلا موقف الحكومة بقيود حديدية، فالائتلاف الحاكم لا يملك القدرة على استئناف أوار الحرب، ولا الطاقة لإنفاذ التزاماته كاملةً، وبالتالي وقع في شرك الانسداد الاستراتيجي والتآكل التدريجي المحتوم.
ومن منظور حسابات البقاء السياسي، يضطر رئيس وزراء الكيان للحفاظ على عرشه المتداعي إلى إدارة الصراع المحتدم بين الأجنحة الداخلية، واستجداء الوقت عبر المناورات التكتيكية البارعة. غير أن مثل هذا النهج مؤقت وهش بطبيعته، إذ لم تعد أي من القوى الرئيسية داخل بنية السلطة تكنّ أدنى ثقة بالقيادة السياسية الراهنة.
إن استفحال الهوة السحيقة بين المؤسسات الأمنية وصناع القرار السياسي والقاعدة الاجتماعية للكيان، يفاقم احتمالات التفكك في الطبقات العليا لصناعة القرار خلال الأشهر المقبلة. من المنظور الاستراتيجي، يمكن اعتبار الاتفاق الأخير شرارة بداية الانهيار التدريجي للنظام السياسي القائم في تل أبيب. فالحكومة الراهنة تُبقى على قيد الحياة شكلياً رغم افتقارها للرصيد السياسي واعتمادها اعتماداً كلياً على الدعم الخارجي، وخاصةً من الولايات المتحدة، هذه التبعية، وإن كانت تتيح استمرار الائتلاف الحاكم في المدى القريب، ستفضي حتماً على المدى البعيد إلى تقويض استقلالية القرار وتعميق الأزمة الداخلية المستعرة.
نتيجةً لذلك، يمكن القول إن حكومة نتنياهو في أعقاب الاتفاق وقعت في براثن “البقاء المعلق”؛ أي أنها قائمة في الظاهر، لكنها تعاني في الباطن من نخر الشرعية وتصدع البنيان، فالتنفيذ الكامل لبنود الاتفاق سيؤجج في كل مرحلة نيران أزمة الشرعية السياسية، والتلكؤ أو العرقلة في تنفيذه سيفضيان حتماً إلى تصعيد الضغط الخارجي وتفاقم الاضطراب الداخلي.
في المحصلة النهائية، يمثّل الاتفاق الأخير ليس فقط خاتمةً للحرب في غزة، بل فاتحةً لفصل جديد من فصول أزمة القيادة وتآكل السلطة السياسية في الكيان الصهيوني، وعلى المدى المنظور، قد يمهّد استمرار هذا المسار لإعادة تشكيل هيكل السلطة في تل أبيب، وبزوغ نظام سياسي جديد سيكون أشدّ خضوعاً من سابقه للقيود الناجمة عن توازن القوى المائل لصالح محور المقاومة.
وينبغي اعتبار الاتفاق الأخير فاصلاً للحرب العسكرية وفاتحةً لعهد جديد في ميزان القوى الإقليمي، هذا الاتفاق، على خلاف ما يوحي به ظاهره، ليس ثمرة ضغط أمريكي أو تنازل من المقاومة، بل نتاج مباشر لتبدل الواقع الميداني وفرض إرادة المقاومة الصلبة على الكيان الصهيوني المترنح.
لقد خاض الكيان الصهيوني غمار حربٍ كان هدفها المعلن استئصال شأفة المقاومة واستعادة هيبة الردع المتهاوية، لكن النتيجة النهائية انقلبت رأساً على عقب: فالبنية العسكرية للمقاومة بقيت شامخةً، وإرادتها صمدت صمود الجبال، واضطر الكيان صاغراً لقبول وقف إطلاق النار، هذا يعني هزيمة استراتيجية نكراء، لا مجرد تعليق لعملية عسكرية.
من منظور استراتيجي، يجسّد هذا الاتفاق في جوهره فشلاً ذريعاً للمخطط الأمريكي الرامي إلى تطويق المقاومة والسيطرة على غزة من الخارج، فواشنطن، الحليف الأول للكيان المحتل التي سعت في بداية المشوار إلى إعادة رسم خارطة النظام السياسي في غزة، اضطرت في خاتمة الحرب لقبول دور وسيط يدير تداعيات الهزيمة المدوية، وبذلك انتقلت دفة صنع القرار من العواصم الغربية إلى ساحة المقاومة الحقيقية.
وعلى الصعيد الإقليمي، قلب الاتفاق الأخير موازين الردع لصالح محور المقاومة. في المعادلة الجديدة، لم تعد القدرة العسكرية للمقاومة مجرد درع واقية، بل باتت عاملاً حاسماً في رسم معالم الاستقرار والأمن في غزة والمنطقة بأسرها، لم يعد الكيان الصهيوني قادراً على إملاء شروطه، وعليه التعايش مع حقيقة حضور المقاومة وسطوتها المتنامية.
في المقابل، تتخبط الحكومة المتربعة على عرش تل أبيب في أزمة متشعبة الجذور: أزمة شرعية داخلية مستفحلة، وعجز عسكري بائن، وتبعية متعاظمة للدعم الأمريكي، تشي هذه الحال بأن الائتلاف الحالي ولج مرحلةً من التآكل التدريجي والبقاء المعلق بخيط واهٍ، لن يكون الكيان في المستقبل المنظور قادراً على إشعال فتيل حرب شاملة، لكنه قد ينحو صوب إجراءات محدودة وهادفة وقابلة للإنكار في محاولة يائسة لترميم صورته المتهشمة.
في هذا السياق، لن يُكتب لهذا الاتفاق الاستمرار ولن يسود الهدوء النسبي في ربوع المنطقة، إلا إذا ظلت قدرة المقاومة الردعية متيقظةً وجاهزةً للانقضاض، فالضمان الحقيقي لهذا الاتفاق لا يكمن في حبر التواقيع وجهود الوسطاء، بل في الثمن الباهظ الذي تستطيع المقاومة إرغام الكيان على دفعه عند أي خرق أو عدوان مستأنف.
من منظور جبهة المقاومة، ينبغي اعتبار هذا الاتفاق فاتحةً لمرحلة إعادة بناء القوة وترسيخ المكاسب الميدانية. يتعين استثمار الفرصة الراهنة لإصلاح البنى التحتية المنهكة، وإعادة تنظيم القدرات العسكرية المتجددة، وتعزيز اللحمة السياسية والشعبية في غزة لتحويل توازن القوى الجديد إلى واقع راسخ.
في خاتمة المطاف، يمكن القول بكل ثقة:
الاتفاق الأخير ليس خاتمة المطاف في مسيرة الصراع، بل فاتحة عهد جديد من التفوق الاستراتيجي لمحور المقاومة.
تبدلت موازين القوى في المنطقة تبدلاً جذرياً، وانحدر الكيان الصهيوني من موقع المهاجم المتغطرس إلى خندق المدافع المتوجس.
أضحى الأمن والاستقرار في المنطقة يُرسم بريشة إرادة المقاومة وثقل حضورها، لا بإملاءات الكيان الصهيوني المتهاوي.