الوقت- في خطوة لافتة ومليئة بالدلالات الإنسانية والسياسية، قررت القوات المسلحة الأردنية نقل المستشفى الميداني الأردني من موقعه القديم في تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة إلى خان يونس في جنوب القطاع. القرار جاء بعد تعرض المستشفى ومحيطه إلى قصف متواصل وتفجيرات كثيفة، ما أدى إلى تضرر المبنى والأجهزة الطبية وتعطل جزء من خدماته.
المستشفى الذي خدم الفلسطينيين لأكثر من 16 عاماً أصبح اليوم ضحية جديدة لحرب لا ترحم، حرب لم تترك للمدنيين فسحة أمان، ولا حتى للمؤسسات الطبية التي يُفترض أن تبقى محمية بموجب القانون الدولي الإنساني.
هذه الخطوة ليست مجرد قرار إداري أو لوجستي، بل تعكس أزمة عميقة يعيشها القطاع الصحي في غزة، الذي بات يترنح تحت وطأة القصف والحصار، فيما يجد الأطباء والمرضى أنفسهم عالقين بين مطرقة العدوان وسندان الإهمال الدولي.
المستشفى الأردني في غزة: تاريخ من العطاء والصمود
افتتح المستشفى الميداني الأردني في غزة عام 2009 عقب العدوان الإسرائيلي على القطاع، بهدف تقديم خدمات طبية عاجلة للمصابين والمرضى في بيئة تعاني أصلاً من نقص حاد في البنية الصحية. ومنذ ذلك الحين، أصبح المستشفى عنواناً للعمل الإنساني الأردني في غزة، وموضع ثقة لدى الأهالي، حيث قدّم على مدار السنوات خدمات علاجية وجراحية لآلاف المرضى والمصابين.
خلال العدوانات المتكررة على غزة، لم يكن المستشفى بمنأى عن المخاطر، فقد تعرض أكثر من مرة لهزات نتيجة القصف القريب، إلا أن الاستهداف الأخير جاء أكثر قسوة. فقد أكدت مصادر عسكرية أردنية أن محيط المستشفى شهد خلال الأسابيع الماضية قصفاً مكثفاً للمباني المجاورة، ما أدى إلى تحطم الواجهات الزجاجية وتطاير الحطام داخل أروقة المستشفى، فضلاً عن تلف أجهزة طبية دقيقة.
وبحسب شهادات محلية، فقد تقلص عدد المراجعين بشكل كبير مؤخراً، بعدما أصبح الوصول إلى المستشفى محفوفاً بالمخاطر، فيما تراجعت قدرته على استقبال الحالات العاجلة. وفي ضوء هذه المعطيات، قررت القوات المسلحة الأردنية نقله إلى خان يونس، حيث تزداد الحاجة الطبية بشكل مضاعف مع ارتفاع أعداد الجرحى والمصابين نتيجة الغارات.
الوضع الصحي في قطاع غزة: انهيار شامل
يعيش قطاع غزة منذ سنوات على وقع أزمة صحية خانقة، تفاقمت بشكل غير مسبوق منذ بدء الحرب الأخيرة. فقد خرجت عشرات المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة كلياً أو جزئياً، بسبب القصف المباشر أو انقطاع الوقود اللازم لتشغيل المولدات.
ووفق بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، فإن أكثر من 70% من المستشفيات باتت خارج الخدمة أو تعمل بقدرة محدودة للغاية. النقص الحاد في الأدوية الأساسية والمستلزمات الطبية جعل الأطباء يعملون في ظروف شبه مستحيلة، حيث يُجرى كثير من العمليات الجراحية دون تخدير كامل، فيما تُعالج الإصابات الخطيرة بوسائل بدائية.
أما قطاع الأطفال والنساء، فقد تأثر بشكل خاص، إذ تعاني آلاف الحوامل من غياب الرعاية الطبية، بينما يواجه الرضع خطر الموت بسبب انعدام الحضانات وأجهزة التنفس الصناعي. أما مرضى السرطان والفشل الكلوي، فيعانون من انقطاع جلسات العلاج، ما يهدد حياتهم بشكل مباشر.
وتصف منظمة الصحة العالمية الوضع الصحي في غزة بأنه "كارثي وغير مسبوق"، مشيرة إلى أن المستشفيات أصبحت أهدافاً مباشرة للحرب، وأن الطواقم الطبية تعمل تحت ضغط نفسي وجسدي هائل.
استهداف المستشفيات في غزة: سياسة ممنهجة
لطالما شكّلت المستشفيات في غزة هدفاً مباشراً أو غير مباشر للغارات الإسرائيلية. فمنذ بداية الحرب الأخيرة، وثّقت منظمات دولية عشرات الحالات التي جرى فيها قصف محيط المستشفيات أو الطرق المؤدية إليها. وفي حالات أخرى، تم توجيه أوامر بالإخلاء الفوري كما حدث مع المستشفى الأردني في تل الهوا.
هذه السياسة أثارت إدانات واسعة من الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، حيث اعتبرت أن استهداف المرافق الطبية يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، الذي يُلزم الأطراف المتحاربة بحماية المستشفيات وفرق الإغاثة الطبية.
من الأمثلة البارزة على ذلك:
- مستشفى الشفاء: الذي حوصر أكثر من مرة وتعرض لقصف مباشر.
- المستشفى الإندونيسي: الذي أُصيب بأضرار جسيمة نتيجة قصف متكرر لمحيطه.
- مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر الفلسطيني: الذي تعرض للاستهداف المباشر وأجبر على تقليص خدماته.
- مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني: الذي واجه مشكلات كبيرة في استمرارية العمل بسبب انقطاع الإمدادات والتهديدات الأمنية.
المستشفى الإندونيسي: تجربة مشابهة
من بين أبرز المستشفيات التي واجهت مصيراً قريباً من المستشفى الأردني، المستشفى الإندونيسي شمال القطاع. هذا الصرح الطبي الذي تم بناؤه بتمويل إندونيسي، تحول إلى هدف متكرر للقصف، ما أسفر عن سقوط عشرات الشهداء والجرحى في محيطه، وأدى إلى توقف خدماته لفترات طويلة. ورغم المناشدات الدولية لحمايته، بقي المستشفى عرضة للهجمات، في مشهد يختزل هشاشة الحماية الدولية للمرافق الطبية.
تمويل دولي لمستشفيات غزة: بين الدعم والاستهداف
لم يقتصر الدعم الخارجي للقطاع الصحي في غزة على الأردن وإندونيسيا؛ فهناك دول أخرى أسهمت في تمويل أو تشغيل مستشفيات ومراكز طبية، منها:
- تركيا: التي افتتحت مستشفىً ضخماً باسم "مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني"، ويعد من أكبر وأحدث المستشفيات في غزة.
- قطر: التي ساهمت بتمويل مشاريع صحية عديدة، أبرزها تجهيزات طبية ومراكز علاجية.
- مصر: عبر إرسال فرق طبية وإقامة مستشفيات ميدانية قرب معبر رفح خلال فترات الطوارئ.
- الإمارات: التي قدمت مساعدات طبية وأقامت مراكز إغاثية مؤقتة في مراحل مختلفة من العدوان.
غير أن هذه الجهود واجهت تحديات كبرى مع تكرار الاستهداف الإسرائيلي للمرافق الصحية، ما جعل من استدامة هذه المشاريع تحدياً حقيقياً.
لماذا خان يونس؟
قرار نقل المستشفى الأردني إلى خان يونس لم يكن عشوائياً؛ فالمدينة تشهد منذ أسابيع موجات نزوح كثيفة من شمال القطاع ومدينة غزة، نتيجة القصف المتواصل. ومع تكدس مئات الآلاف من النازحين، ارتفعت الحاجة إلى الخدمات الطبية بشكل غير مسبوق. ومع تضرر مستشفيات رئيسية في المنطقة، بات وجود المستشفى الأردني هناك ضرورة لإنقاذ حياة الآلاف.
ردود فعل فلسطينية
لاقى قرار نقل المستشفى الأردني إلى خان يونس ترحيباً في الأوساط الفلسطينية، حيث اعتبر كثيرون أن هذه الخطوة ستعيد إحياء دور المستشفى في خدمة الجرحى والمصابين. وأكدت مصادر محلية أن الأهالي باتوا بحاجة ماسة إلى خدمات طبية بعد توقف معظم المستشفيات أو عملها بقدرات محدودة نتيجة الحصار ونقص الوقود.
الرواية الإسرائيلية: مبررات أمنية واتهامات بالجملة
من جانبها، بررت إسرائيل استهداف أو محاصرة المستشفيات بزعم استخدامها من قبل فصائل المقاومة كمراكز قيادة أو مخابئ للأسلحة. هذه الادعاءات تكررت في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين على مدى سنوات، حيث يعتبرون أن المستشفيات "تُستغل لأغراض عسكرية". غير أن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، ومنها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، لم تجد أدلة قاطعة تدعم هذه المزاعم، مؤكدة أن استهداف المستشفيات يندرج ضمن سياسة العقاب الجماعي.
وفي حالة المستشفى الأردني، لم تقدم إسرائيل أي دليل على وجود نشاط عسكري داخله، بل اكتفت بالمطالبة بإخلائه فوراً، ما أثار موجة من الاستياء الشعبي والرسمية في الأردن وفلسطين.
المجتمع الدولي وصمته المريب
ورغم توالي التقارير عن استهداف المستشفيات في غزة، لم يصدر عن المجتمع الدولي سوى بيانات إدانة عامة، دون اتخاذ خطوات عملية لردع الاحتلال عن هذه الممارسات. فالقانون الدولي واضح في حماية المرافق الطبية، لكن الواقع على الأرض يعكس إفلاتاً من العقاب.
ويرى خبراء أن استمرار استهداف المستشفيات والمراكز الطبية يهدف إلى كسر صمود السكان وحرمانهم من الحد الأدنى من مقومات الحياة، في إطار سياسة أوسع تقوم على إنهاك البنية المدنية في القطاع.
أبعاد سياسية وإنسانية
قرار نقل المستشفى الميداني الأردني لا يمكن عزله عن البعد السياسي. فهو يعكس رغبة الأردن في البقاء حاضراً في المشهد الإنساني الفلسطيني، وفي الوقت ذاته يسلط الضوء على حجم الانتهاكات الإسرائيلية. كما أن استمرار الأردن في تقديم هذه الخدمة يُعد رسالة إلى المجتمع الدولي بأن المساعدات الطبية ليست عملاً ثانوياً، بل هي ضرورة حياتية.
كما أن استهداف المستشفيات، سواء الأردني أو الإندونيسي أو التركي، يعكس نية الاحتلال في تقويض أي جهد دولي لدعم صمود الفلسطينيين. وهو ما قد يدفع دولاً أخرى إلى التردد في إقامة مرافق مشابهة خشية استهدافها، ما يعني خنق أي جهد إنساني من الخارج.
قصة المستشفى الميداني الأردني ليست سوى فصل من فصول المأساة الإنسانية في غزة، حيث باتت المستشفيات هدفاً للحرب، لا ملاذاً للجرحى. نقل المستشفى إلى خان يونس يسلط الضوء على معاناة المدنيين المحاصرين بين قصف لا يتوقف وحصار خانق، بينما يقف العالم عاجزاً عن حماية أبسط حقوقهم: الحق في العلاج.
إن استمرار هذه السياسات يعكس واقعاً مأساوياً، ويثير سؤالاً أخلاقياً وإنسانياً عميقاً: إلى متى ستظل المستشفيات في غزة هدفاً مشروعاً للحرب، بدلاً من أن تكون خطوطاً حمراء تحمي حياة الأبرياء؟ وهل ستتحرك الإرادة الدولية يوماً لفرض حماية حقيقية لهذه المؤسسات، أم أن مصيرها سيظل رهن قنابل الاحتلال؟