الوقت- منذ السابع من أكتوبر 2023، تتصاعد الاتهامات الموجهة لإسرائيل وقيادتها السياسية والعسكرية بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة. ومع صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، اكتسب هذا الاتهام بعداً رسمياً ودولياً غير مسبوق. فقد خلص التقرير إلى أن إسرائيل، بقيادة رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو والرئيس إسحاق هرتسوغ ومسؤولين آخرين، لم تكتفِ بممارسة القتل والتدمير، بل حرضت بشكل مباشر على الإبادة الجماعية، وسعت إلى فرض واقع ديموغرافي جديد يقوم على الحفاظ على "أغلبية يهودية" في الضفة الغربية وأراضي 1948، عبر القضاء على الوجود الفلسطيني أو تقليصه إلى الحد الأدنى.
تقرير أممي يضع القيادة الإسرائيلية في قفص الاتهام
أكدت اللجنة الأممية أن إسرائيل ارتكبت أربعة أعمال تندرج بوضوح تحت تعريف الإبادة الجماعية في اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة لعام 1948:
القتل الجماعي، حيث خلّفت الحرب على غزة حتى الآن أكثر من 65 ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال.
إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير، من خلال القصف العشوائي والتعذيب والاعتقالات الجماعية.
فرض ظروف معيشية تؤدي إلى الهلاك، مثل الحصار وتجويع السكان وتدمير البنية التحتية المدنية.
منع الإنجاب، عبر استهداف المنظومة الصحية وحرمان السكان من الأدوية والرعاية الأساسية.
وقد أكدت اللجنة أن هذه الأفعال ليست حوادث منفصلة أو مجرد "أضرار جانبية" للحرب، بل تعكس نية واضحة وممنهجة للقضاء على الفلسطينيين في غزة جزئياً أو كلياً.
التحريض العلني: من الخطاب السياسي إلى الأوامر العسكرية
واحدة من أخطر النقاط التي أوردها التقرير هي اعتبار تصريحات نتنياهو وهرتسوغ وغالانت بمثابة دليل مباشر على "نية الإبادة الجماعية". فقد شبه نتنياهو في رسالة لجنوده العمليات العسكرية في غزة بما سماه "حرباً مقدسة للإبادة الشاملة" على غرار ما ورد في نصوص العهد القديم. أما هرتسوغ، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك حين اعتبر أن "لا أحد في غزة بريء"، ما يفتح الباب أمام استباحة حياة كل المدنيين دون تمييز.
هذه اللغة التي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتصفهم بالحيوانات أو "بالسرطان الواجب استئصاله"، لا تختلف كثيراً عن الخطاب الذي سبق مجازر رواندا عام 1994، وهو ما أشار إليه أعضاء اللجنة، وفي مقدمتهم القاضية الجنوب أفريقية بيلاي، التي كانت قد ترأست محكمة الأمم المتحدة الخاصة برواندا.
إبادة جماعية بهدف السيطرة الديموغرافية
ما يجعل القضية أكثر وضوحاً هو ما خلص إليه التقرير من أن الهدف الإسرائيلي يتجاوز مجرد "رد عسكري" على هجمات السابع من أكتوبر، ليتمثل في فرض سيطرة دائمة على قطاع غزة والحفاظ على أغلبية يهودية في الضفة الغربية وأراضي 1948.
بهذا المعنى، فإن الحرب على غزة ليست سوى جزء من مشروع أوسع يسعى لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وقطع الطريق على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. وتدل على ذلك السياسات المتوازية التي تنتهجها إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، مثل التوسع الاستيطاني، ودعم اعتداءات المستوطنين، والتهجير القسري، وضم الأراضي بحكم الأمر الواقع.
التدمير الممنهج للبنية التحتية
أحد المحاور الجوهرية في تقرير اللجنة الأممية هو التأكيد على أن تدمير البنية التحتية في غزة يتم بشكل ممنهج، لا عشوائي. فاستهداف المستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، كلها سياسات مقصودة تهدف إلى حرمان الفلسطينيين من مقومات الحياة الأساسية.
هذا الحرمان المتعمد خلق ظروفاً معيشية بالغة القسوة، حيث تفشى الجوع، وظهرت حالات مجاعة أودت بحياة مئات الأطفال والرضع. كما حرم المرضى من العلاج، وارتفعت معدلات الوفيات بسبب الأمراض التي يمكن الوقاية منها. وهذه الممارسات، بحسب القانون الدولي، تمثل أحد الأركان الأساسية لجريمة الإبادة الجماعية.
البعد القانوني: من الاتهام إلى الملاحقة
لا يقتصر الأمر على تقرير لجنة التحقيق الأممية، بل يتقاطع مع مسار قانوني دولي أوسع. فقد أشارت محكمة العدل الدولية في أوائل عام 2024 إلى خطورة بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وأمرت باتخاذ تدابير عاجلة لحماية الفلسطينيين من الإبادة.
ومع صدور التقرير الجديد، أصبح هناك أساس أقوى لمساءلة القيادة الإسرائيلية أمام المحاكم الدولية، سواء عبر محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية. فالمسؤولية لا تقع فقط على الأفراد مثل نتنياهو وهرتسوغ وغالانت، بل تمتد لتشمل دولة إسرائيل ككيان متورط في الجريمة.
الدعم الأمريكي: شراكة في الجريمة
لا يمكن إغفال أن هذه الإبادة الجماعية تجري تحت غطاء ودعم أمريكي واضح. فقد زودت واشنطن إسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي، وأحبطت أي تحرك دولي لوقف الحرب أو فرض عقوبات. وهذا يطرح تساؤلات قانونية وأخلاقية حول شراكة الولايات المتحدة في الجريمة، ما قد يفتح الباب مستقبلاً لمساءلتها أمام الرأي العام العالمي، وربما أمام هيئات قضائية دولية.
الأرقام كمرآة للكارثة
تكفي الأرقام التي وردت في التقرير لتوضيح حجم الفاجعة الإنسانية:
65,382 شهيداً و 166,985 مصاباً في غزة حتى منتصف 2025.
442 حالة وفاة جراء المجاعة، بينهم 147 طفلاً.
1,042 شهيداً في الضفة الغربية على يد الجيش والمستوطنين منذ أكتوبر 2023.
أكثر من 19,000 معتقل فلسطيني في الضفة وغزة.
هذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصائيات، بل تكشف عن سياسة ممنهجة تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وإبادة جزء كبير منه.
تشابه مع جرائم الإبادة السابقة
المقارنة التي أجرتها بيلاي بين ما يحدث في غزة وما حدث في رواندا ليست مجرد تشبيه عابر. ففي الحالتين، كان هناك تجريد للضحايا من إنسانيتهم عبر خطاب كراهية ممنهج، يتبعه عنف منظم يستهدف مجموعات بشرية معينة على أساس الهوية. وفي الحالتين أيضاً، وقفت الأسرة الدولية عاجزة أو متواطئة، قبل أن تتحرك متأخرة لإدانة الجريمة.
هذا التشابه يعيد إلى الأذهان السؤال المحرج: هل سيتكرر سيناريو رواندا حيث لم يتحرك المجتمع الدولي إلا بعد فوات الأوان؟
نحو مساءلة تاريخية
إن تقرير لجنة التحقيق الأممية لا يترك مجالاً للالتباس: إسرائيل وقيادتها السياسية مسؤولة عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. هذه الخلاصة، حتى وإن لم تؤدِ فوراً إلى محاكمة نتنياهو وهرتسوغ أمام محكمة دولية، فإنها ترسم إطاراً قانونياً وسياسياً يمكن أن يُبنى عليه لاحقاً لمساءلتهم.
والأهم أن هذا التقرير يسجل للتاريخ أن ما يجري في غزة ليس مجرد "حرب" أو "نزاع"، بل هو جريمة إبادة مكتملة الأركان. والذين يبررون أو يتواطؤون أو يصمتون أمامها، سيتحملون مسؤولية أخلاقية وقانونية أمام الأجيال المقبلة.
لقد آن الأوان لأن تتحول هذه الاتهامات الأممية إلى خطوات عملية: فرض عقوبات على إسرائيل، وقف إمدادات السلاح، وتفعيل آليات العدالة الدولية. أما الصمت، فلن يكون سوى مشاركة في الجريمة.