الوقت- منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، تتكشف ملامح مشروع استيطاني-إبادي غير مسبوق في التاريخ المعاصر، يقوم على تحويل القطاع إلى ما يشبه معسكر اعتقال ضخم، على غرار ما عرفته أوروبا في الحقبة النازية، لكن بأساليب أكثر قسوة وعلنية. فبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، يواصل الاحتلال فرض النزوح القسري على السكان عبر القصف والتجويع والحصار، ويدفع بمئات الآلاف إلى أماكن ضيقة لا تتعدى 12% من مساحة غزة، لتكديس أكثر من 1.7 مليون إنسان فيها دون مقومات حياة. يترافق ذلك مع استهداف مباشر للمدنيين والكوادر الطبية وتدمير البنية التحتية الصحية، بما يكرس سياسة “الإبادة الصحية” ويفتح الباب أمام مجاعة وعطش وموت بطيء.
إن ما يحدث في غزة لم يعد مجرد مواجهة عسكرية أو حرباً تقليدية، بل هو عملية منظمة لتفكيك المجتمع الفلسطيني جسدياً ونفسياً، من خلال أدوات مركبة تشمل الحصار والدمار والتهجير. هذا المشهد المأساوي، الذي وصفه خبراء وحقوقيون بأنه يرقى إلى جريمة إبادة جماعية، يضع العالم أمام اختبار تاريخي: فإما أن يتحرك المجتمع الدولي لحماية القيم الإنسانية ووقف الكارثة، أو أن يظل صامتاً ليُسجل اسمه في سجل العار إلى جانب من تواطؤوا مع أبشع الجرائم في تاريخ البشرية.
إن هذا النموذج يعكس ما يمكن تسميته بـ"الهندسة السكانية القسرية"، إذ لا يكتفي الاحتلال بالتهجير بل يعمل على إنتاج "معسكرات موت بطيء"، حيث يصبح البقاء على قيد الحياة معركة يومية ضد الجوع والمرض والعطش. وهو ما يعيد إلى الأذهان المعسكرات النازية مثل أوشفيتز، لكن هذه المرة في قلب الشرق الأوسط، وبمرأى ومسمع من العالم.
استهداف المدنيين والكوادر الطبية: سياسة ممنهجة للإبادة
من بين أكثر الجرائم وحشية، استهداف الكوادر الطبية بشكل مباشر. فقد استشهد منذ بدء العدوان أكثر من 1700 من الكوادر الصحية، بينما يقبع 361 آخرون في معتقلات الاحتلال. كما تم استهداف عائلات أطباء بارزين مثل عائلة مدير مجمع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية، في رسالة واضحة بأن الاحتلال يسعى لتجريد المجتمع الفلسطيني من كل عناصر الصمود.
هذا النمط يرقى إلى ما يمكن تسميته بـ"الإبادة الصحية"، حيث يتم تدمير المستشفيات، منع وصول الوقود والأدوية، واستهداف الأطباء والمسعفين، وهو ما يمثل وجهاً آخر للإبادة الجماعية.
إبادة القطاع الصحي: موتٌ بلا صوت
المعطيات تشير إلى أن المستشفيات في غزة لا تملك سوى ساعات محدودة من الوقود لتشغيل مولداتها:
مستشفى الصحابة للولادة لم يتبق لديه سوى 24 ساعة فقط.
مجمع الشفاء على وشك تقليص خدماته بسبب نفاد الوقود.
إن توقف هذه المستشفيات يعني موتاً محققاً لعشرات المرضى في العناية المركزة وغرف العمليات، وهو ما يضع الاحتلال أمام اتهام مباشر باستخدام الطب كسلاح للإبادة، عبر تعطيل المنظومة الصحية وحرمان المرضى من حقهم في الحياة.
طوابير المياه شكل من اشكال التعذيب الجماعي
المشهد الإنساني يزداد قتامة مع أزمة المياه الصالحة للشرب. الأهالي يصطفون في طوابير طويلة للحصول على بضع لترات من صهاريج متنقلة، بينما يُجبر الأطفال والنساء وكبار السن على الوقوف لساعات تحت القصف والخوف.
إن حرمان الناس من الماء لا يعد مجرد سياسة عقاب جماعي، بل يدخل في إطار جريمة الحرب باستخدام العطش كسلاح إبادة، وهو ما يشكل خرقاً صارخاً لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
اقتصاد النزوح: كلفة باهظة للتهجير القسري
النزوح لم يعد مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل تحول إلى كابوس اقتصادي واجتماعي. كثير من العائلات تضطر لبيع أثاث منازلها لتأمين تكاليف النقل التي قد تصل أحياناً إلى 7 آلاف دولار، في ظل ندرة وسائل المواصلات وتدمير آلاف المركبات.
بهذا، يصبح النزوح عملية استنزاف شاملة، حيث يُدفع الفلسطيني إلى فقدان بيته، مدخراته، كرامته، وحتى حقه في البقاء. إنها معادلة مركبة للإفقار والإبادة في آن واحد.
متاهة الموت: أدوات الاحتلال المركبة
يمكن توصيف ما يجري في غزة بـ"متاهة موت" شاملة، حيث يستخدم الاحتلال أدوات مركبة:
الحصار: إغلاق كامل للمعابر منذ مارس/آذار الماضي، ومنع دخول المساعدات الإنسانية.
الدمار: قصف البنية التحتية والمنازل والمستشفيات.
النزوح القسري: إجبار المدنيين على ترك منازلهم والانتقال إلى أماكن غير آمنة.
هذه الأدوات ليست مجرد إجراءات عسكرية، بل تمثل استراتيجية مدروسة لإعدام وسائل الحياة، وتحويل غزة إلى مساحة موت مفتوح.
المعابر المغلقة والمجاعة سارية
منذ مارس 2025، تغلق إسرائيل جميع المعابر المؤدية إلى غزة، ما أدخل القطاع في حالة مجاعة جماعية رغم تكدس شاحنات الإغاثة على حدوده. وحتى بعد السماح بدخول كميات محدودة من المساعدات قبل شهرين، بقيت هذه الكميات رمزية وغير قادرة على تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات.
الأدهى أن معظم هذه الشاحنات تتعرض للسطو من عصابات تقول حكومة غزة إن إسرائيل تحميها، في حلقة أخرى من "حرب التجويع الممنهجة".
مقارنة مع النازية: هل تخطت إسرائيل حدود التاريخ؟
حين يُقارن الفلسطينيون اليوم معسكرات النزوح في غزة بمعسكرات الاعتقال النازية، فالأمر ليس مجازاً خطابياً بل حقيقة ملموسة. الفارق أن النازية مارست جرائمها في ظل سرية وظلام نسبي، بينما الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياساته في وضح النهار، أمام كاميرات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي عصر يفترض أنه أكثر وعياً بحقوق الإنسان.
إن استخدام الجوع والعطش والحرمان الطبي كسلاح إبادة، يضع ما يجري في غزة في خانة الجرائم التي تتجاوز النازية في بعض أبعادها، ليس فقط من حيث الوسائل، بل من حيث حجم الصمت الدولي والتواطؤ الغربي.
عجز المجتمع الدولي و صمت يضاهي المشاركة
رغم اعتراف خبراء وقادة دول بوجود إبادة جماعية في غزة، إلا أن المجتمع الدولي لا يزال عاجزاً عن التدخل. هذا العجز ليس بريئاً، بل يحمل في طياته شبهة التواطؤ، إذ تتحول بيانات "القلق" والشجب إلى غطاء سياسي لمزيد من الإبادة.
إن صمت العالم يجعل من هذه المأساة أكبر كارثة إنسانية يشهدها العصر الحديث، ويطرح سؤالاً جوهرياً: إذا كان المجتمع الدولي عاجزاً اليوم عن وقف إبادة واضحة ومعلنة، فماذا تبقى من منظومة حقوق الإنسان العالمية؟
أبعاد سياسية واستراتيجية
إن ما يجري لا يمكن فصله عن المشروع الإسرائيلي الأشمل:
إعادة هندسة غزة ديموغرافياً عبر التهجير والتجويع.
تدمير البنية المجتمعية عبر استهداف الأطباء والمثقفين والعائلات القيادية.
تحويل القطاع إلى مساحة "غير قابلة للحياة" لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة الجماعية.
بهذا، يتحقق الحلم الإسرائيلي بإفراغ غزة تدريجياً، عبر إبادة بطيئة لا تقل فتكاً عن القنابل والرصاص.
غزة امتحان الانسانية جمعاء
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد حرب، بل اختبار شامل للقيم الإنسانية. تحويل القطاع إلى معسكر اعتقال كبير، استهداف المدنيين والكوادر الطبية، فرض المجاعة والعطش، كلها ممارسات تضع الاحتلال في موقع أبشع من النازية، لأنها تتم عن وعي وإدراك، وبدعم وصمت دولي.
إن العالم يقف أمام مفترق طرق: إما أن يتحرك لوقف الإبادة الجارية، أو أن يسجل اسمه في صفحات العار إلى جانب من تواطؤوا مع الجرائم عبر التاريخ. غزة اليوم ليست فقط قضية فلسطينية، بل مرآة تكشف زيف النظام الدولي بأكمله.