الوقت- شهدت الساحة السورية خلال الأسابيع الماضية تطوراً خطيراً تمثل في تصاعد التهديدات المباشرة التي يطلقها تنظيم "هيئة تحرير الشام" بزعامة أبو محمد الجولاني ضد العائلات العلوية في عدد من المدن الساحلية.
مصادر محلية أكدت أن التنظيم، وبعد انكشاف سلسلة من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها بحق هذه العائلات، لجأ إلى سياسة الترهيب والتخويف عبر التهديد بالخطف والقتل لمنع فضح تلك الممارسات.
وقد تم تسجيل عشرات حالات الاختطاف في مدن بانياس، جبلة واللاذقية، وهي مناطق حساسة من الناحية الجغرافية والاجتماعية، حيث يعيش خليط من مكونات المجتمع السوري، المعلومات المتوافرة تشير إلى أن المخطوفين نُقلوا إلى أماكن مجهولة، وأن التنظيم يحاول فرض تعتيم كامل على هذه الانتهاكات، مهدداً الأهالي بعدم الحديث عنها حفاظاً على حياتهم، هذه السياسة تعكس استمرارية عقلية التنظيمات المتطرفة التي تعتمد على بث الرعب كوسيلة لإحكام السيطرة.
الأمم المتحدة ودعوتها العاجلة للحماية
في موازاة هذه التطورات، برز موقف مهم من الأمم المتحدة التي دعت إلى توفير حماية عاجلة لأسطول "صمود"، ورغم أن تفاصيل هذا الأسطول لم تُكشف بشكل موسع، إلا أن دعوة المنظمة الدولية تؤشر إلى مخاوف جدية من استهداف متزايد للبنى التحتية الحيوية أو المساعدات الإنسانية.
التحرك الأممي يعكس إدراكاً عميقاً بأن حالة الفوضى وانعدام الاستقرار في سوريا يهدد أي مبادرة دولية لدعم المدنيين أو تقديم العون الإنساني.
الأمم المتحدة، عبر بياناتها، عادة ما تركز على البعد الإنساني، لكنها في هذا السياق بدت أكثر قلقاً من المعتاد، ما يشي بأن التهديدات الموجهة ضد الأسطول ليست مجرد تكهنات بل معلومات مؤكدة وصلتها من الميدان. هذه الدعوة تمثل في الوقت نفسه محاولة لتحريك المجتمع الدولي تجاه ملف يوشك أن يُطوى وسط انشغال القوى الكبرى بملفات إقليمية أخرى.
واقع الفوضى بعد سقوط النظام
المرصد السوري لحقوق الإنسان أوضح في تقريره أن الأوضاع بعد سقوط نظام بشار الأسد لم تتجه نحو الاستقرار، بل دخلت البلاد في مرحلة فراغ خطير تميزت بانتشار الفوضى والقتل والنهب في معظم المحافظات، وغياب المؤسسات فتح المجال أمام الميليشيات والتنظيمات المتطرفة لتوسيع نفوذها.
الجولاني بين الخطاب السياسي والممارسات الميدانية
أبو محمد الجولاني، الذي حاول في السنوات الأخيرة تقديم نفسه بوجه مختلف عن القاعدة، يظهر في هذه الأحداث بوجهه الحقيقي الذي يجمع بين النزعة السلطوية وأدوات الترهيب، فبينما يسعى إعلامياً لإقناع المجتمع الدولي بأنه طرف "محلي" يمكن التفاهم معه، تكشف الوقائع على الأرض أن تنظيمه لا يزال يستخدم الخطف والقتل كسلاح لتركيع الخصوم وإخضاع المجتمع المحلي.
تهديد العائلات العلوية يمثل خطوة خطيرة لأنها تستهدف مكوناً اجتماعياً كاملاً، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام موجات جديدة من الكراهية والانقسام الطائفي، هذا السلوك يعكس بوضوح أن التنظيم لا ينظر إلى الاستقرار أو التعايش كخيار، بل يسعى إلى فرض سلطته عبر بث الخوف، ومن هنا تأتي خطورة المرحلة، لأن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى تآكل ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري.
المجتمع الدولي بين الغياب والانتظار
أمام هذه التطورات، يطرح سؤال ملح: أين يقف المجتمع الدولي؟ الواقع أن الاستجابة الدولية لا تزال محدودة جداً، وغالباً ما تنحصر في بيانات إدانة أو دعوات عامة للحماية، لكن غياب أي خطوات عملية يترك الميدان مفتوحاً أمام التنظيمات المسلحة لتوسيع نفوذها، وفي ظل انشغال القوى الكبرى بأزمات إقليمية ودولية أخرى، يبدو أن الملف السوري لم يعد أولوية، ما يجعل السوريين يعيشون وحدهم تداعيات هذه الفوضى.
الدعوة الأممية لحماية أسطول صمود ربما تكون محاولة لفتح نافذة اهتمام جديدة، لكنها تبقى ناقصة ما لم تُترجم إلى خطوات عملية على الأرض، سواء من خلال إرسال بعثات مراقبة، أو عبر توفير دعم مباشر للأهالي المهددين، والاكتفاء بالتحذيرات لن يغير شيئاً في معادلة القوة القائمة، حيث يظل السلاح هو الفاعل الأول في رسم المشهد.
مستقبل غامض ومخاطر متزايدة
المشهد السوري الراهن يشي بأن المستقبل لا يزال غامضاً، بل ربما أكثر قتامة مما مضى، فإذا استمرت حالة الانقسام والفوضى، فإن البلاد مرشحة لمزيد من التدهور، وخصوصاً مع تصاعد الانتهاكات ضد المدنيين واستمرار عمليات الخطف والقتل، هذه الممارسات لا تهدد فقط الأمن المجتمعي، بل أيضاً فرص أي عملية سياسية مستقبلية، إذ يصعب بناء توافق وطني في ظل وجود جراح مفتوحة وذاكرة مثقلة بالانتهاكات.
إن تهديد العائلات العلوية يمثل نموذجاً مصغراً عن المأساة السورية الأوسع، شعب يعيش تحت وطأة الخوف، ومجتمع مهدد بالتمزق، ودولة غائبة عن المشهد، وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية، فإن الأزمة ستستمر في الدوران ضمن حلقة مفرغة من العنف والفوضى، فيما يدفع المدنيون الثمن الأكبر.
في الختام، الأحداث الأخيرة، بما فيها دعوة الأمم المتحدة لحماية أسطول صمود، وفضح تهديدات تنظيم الجولاني ضد العائلات السورية، تعكس حجم التعقيد الذي يعيشه البلد بعد سنوات من الحرب، فهي ليست مجرد وقائع عابرة، بل مؤشرات على أن الصراع لا يزال بعيداً عن الحل، وأن معاناة المدنيين مستمرة، المطلوب اليوم ليس بيانات شجب وإدانة فحسب، بل تحرك فعلي يضع المدنيين في صلب الاهتمام، ويحاصر الممارسات الإرهابية، ويعيد للسوريين بارقة أمل في مستقبل أكثر أمناً واستقراراً.