الوقت-في خضم التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، برزت قضية اعتقال جماعة أنصار الله لعدد من المتهمين بالتجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل في صنعاء باعتبارها محطة فارقة تكشف حجم الصراع الدائر في الخفاء وتسلط الضوء على طبيعة المواجهة غير المتكافئة التي يخوضها الشعب اليمني منذ سنوات ضد أعتى القوى العالمية. فقد أعلنت سلطات صنعاء أنها تمكنت من تفكيك شبكة تجسس معقدة ومتجذرة، كانت تعمل تحت غطاء المنظمات الدولية منذ سنوات طويلة، وأن عدداً من العاملين المحليين الذين وُصفوا بأنهم جزء من هذه المنظومة الاستخباراتية قد تم القبض عليهم والتحقيق معهم بتهم واضحة تتعلق بالتعاون مع أجهزة الأمن الإسرائيلية والأمريكية. هذه الخطوة لم تكن معزولة عن السياق العام الذي يعيشه اليمن منذ بدء العدوان عام 2015، بل تأتي كترجمة طبيعية لصراع استخباري مفتوح تشارك فيه أجهزة عالمية تسعى لتمزيق البلاد والتحكم في ثرواتها وممراتها المائية الحيوية.
ولم يكن إعلان صنعاء عن هذه العملية الأمنية الكبرى مجرد دعاية إعلامية أو ورقة سياسية، بل جاء مصحوباً بعرض تسجيلات مصورة أظهرت ما قالت السلطات إنها اعترافات من أفراد الخلية الذين كشفوا عن طبيعة المهام الموكلة إليهم، وكيف كانوا يتلقون التعليمات منذ أن كانت السفارة الأمريكية تمارس أنشطتها في صنعاء قبل إغلاقها، ثم من خلال غطاء منظمات دولية ظلت حاضرة حتى اللحظة. هذا المشهد عكس عمق الأزمة التي يعاني منها اليمنيون، حيث يجدون أنفسهم في مواجهة تحالف عسكري واستخباري واقتصادي هائل، يسعى لإخضاعهم عبر مختلف الوسائل، من الحصار المباشر إلى الاختراق الداخلي وتجنيد العملاء. وفي المقابل، فإن قدرة صنعاء على كشف هذه الخلايا وإحباط مخططاتها يمثل إنجازاً أمنياً يعكس تراكم الخبرات لدى أجهزة المخابرات الوطنية ووعيها بخطورة الحرب الناعمة التي توازي في أثرها قصف الطائرات والصواريخ.
المفارقة أن هذه الاعتقالات جاءت بعد أيام قليلة فقط من الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قلب القيادة السياسية لأنصار الله، وأسفرت عن مقتل رئيس الوزراء وعدد من الوزراء البارزين. وبالنظر إلى التوقيت، يمكن القول إن الإعلان عن تفكيك خلية التجسس يوجه رسالة واضحة إلى الداخل والخارج بأن اليمن، رغم ما يتعرض له من ضربات ، ما يزال قادراً على الصمود والمواجهة، وأنه يمتلك أوراق قوة لا يُستهان بها في معادلة الحرب. كما أن هذه الرسالة تُفهم في سياق الردع، فالمعادلة لم تعد عسكرية صرفة، بل دخلت الأجهزة الاستخبارية على الخط بشكل مباشر، ومعها تتغير قواعد الاشتباك ليصبح الأمن الداخلي جبهة موازية للمعارك في البحر الأحمر وعلى الحدود السعودية.
المجتمع الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة، سارع إلى إدانة هذه الاعتقالات، مطالباً بالإفراج الفوري عن الموظفين المحليين الذين يعملون في الوكالات الأممية. غير أن هذه المواقف لا يمكن فصلها عن طبيعة الانحياز الغربي التقليدي في مقاربة الأزمة اليمنية، حيث يغيب الإنصاف في تقييم الوقائع لصالح مقاربة شكلية تُظهر المعتقلين كضحايا لممارسات سلطات صنعاء، بينما يتم تجاهل الأدلة والاعترافات التي كشفتها الأجهزة الأمنية. فاليمنيون الذين خبروا على مدى سنوات طويلة أساليب الاختراق والتجسس لا ينظرون بعين البراءة إلى وجود عناصر محلية ضمن هذه المنظمات، خصوصاً في ظل سوابق موثقة عن تورط بعض العاملين في أنشطة خارجة عن مهامهم الإنسانية. ومن هنا فإن موقف صنعاء لم يأتِ من فراغ، بل من إدراك بأن الأمن الوطني بات عرضة لمحاولات منظمة تستهدف بنيته الداخلية عبر أدوات ناعمة تحمل شعارات العمل الإنساني فيما تخفي أجندات سياسية واستخبارية.
إن محاولة تصوير ما جرى باعتباره استهدافاً للعمل الإغاثي هو تضليل متعمد يتجاهل أن اليمنيين هم أكثر شعوب المنطقة حاجة إلى المساعدات، وأن أنصار الله الذين يديرون مؤسسات الدولة في صنعاء يدركون تماماً أن التضييق على العمل الإنساني سيرتد سلباً على مجتمعهم أولاً. لكنهم في المقابل لا يقبلون أن يكون هذا العمل واجهة للتجسس والاختراق. وعليه فإن الإجراءات التي اتخذتها السلطات تمثل من منظور وطني دفاعاً مشروعاً عن السيادة ورفضاً لابتزاز مزدوج يُمارس باسم المساعدات الإنسانية من جهة وباسم محاربة الإرهاب من جهة أخرى. هذه الازدواجية هي التي عمقت مأساة اليمن طيلة السنوات الماضية، إذ تحول شعار الإنسانية إلى وسيلة للضغط السياسي وإطالة أمد الصراع.
من زاوية تحليلية، يمكن القول إن إعلان صنعاء عن اعتقال خلية تجسس أمريكية–إسرائيلية هو تعبير عن إدراك استراتيجي بأن المعركة الحقيقية لا تُحسم فقط بالصواريخ والطائرات المسيّرة، بل أيضاً بالقدرة على حماية الجبهة الداخلية من الاختراق. فالجماعة التي تخوض مواجهة مباشرة مع التحالف السعودي والإماراتي ومن خلفهما واشنطن وتل أبيب تعلم أن أي ثغرة أمنية داخلية قد تكون كفيلة بإسقاط إنجازاتها العسكرية والسياسية. ولهذا فإن توجيه الأنظار إلى البعد الاستخباري في هذه المرحلة يعد جزءاً من معركة الوعي التي تخوضها صنعاء ضد خصومها، حيث تسعى إلى ترسيخ قناعة لدى جمهورها بأن العدو متغلغل في كل تفاصيل الحياة اليومية، وأن اليقظة والمقاومة ضرورة وجودية لا خيار سياسي.
كما أن هذه التطورات تضع إسرائيل في قلب المشهد اليمني بشكل لم يعد قابلاً للإنكار. فإذا كانت قد حاولت في السابق التخفيف من حجم تورطها في الحرب، فإن الغارات الجوية التي نفذتها مؤخراً على صنعاء، وما رافقها من إعلان الحوثيين عن تفكيك خلية مرتبطة مباشرة بالاستخبارات الإسرائيلية، يؤكد أن اليمن بات ساحة مواجهة مفتوحة مع الكيان الصهيوني، ليس فقط على خلفية الموقف من غزة، وإنما أيضاً بسبب الموقع الجيوستراتيجي لليمن في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. هذه الحقيقة تجعل من القضية اليمنية جزءاً من الصراع العربي–الإسرائيلي الأوسع، وتمنحها بعداً يتجاوز حدودها الوطنية إلى كونها معركة إقليمية على الممرات المائية والسيادة العربية.
أما الولايات المتحدة، التي تواصل دعمها العسكري والسياسي للتحالف، فإنها تجد نفسها في وضع لا يُحسد عليه. فبينما ترفع شعار الدفاع عن حقوق الإنسان وتدين اعتقال موظفين محليين، تتجاهل في الوقت نفسه أنها المتهم الأول في صناعة المأساة اليمنية عبر الحصار والدعم اللوجستي للعمليات العسكرية، وعبر تواجدها العسكري المباشر في مياه البحر الأحمر. وبالتالي فإن خطابها حول حماية العاملين الإنسانيين يبدو فاقداً للمصداقية لدى اليمنيين الذين يدركون أن واشنطن كانت وما زالت طرفاً أصيلاً في العدوان، وأن الحديث عن حقوق الإنسان لا يتعدى كونه ورقة ضغط سياسية يتم استخدامها عندما تخدم مصالحها.
إن ما يحدث اليوم في صنعاء ليس سوى فصل جديد من فصول معركة طويلة يخوضها اليمنيون دفاعاً عن استقلالهم وكرامتهم. فالشعب الذي صمد أمام الحصار والقصف لسنوات لن يتردد في مواجهة أخطر أدوات العدوان المتمثلة في الاختراق الاستخباري الذي يستهدف أمنه الداخلي.