الوقت- في ظل المستجدات التي تعصف بلبنان وانبطاح حكومته أمام الإملاءات الأمريكية-الصهيونية لنزع سلاح المقاومة، جاءت مواقف الشيخ نعيم قاسم، أمين عام حزب الله، في خطابه الأخير، نابعةً من بصيرته النافذة بطبيعة المنعطف السياسي الدقيق الذي يجتازه لبنان، وأن المسلك الذي تنتهجه الحكومة يمثّل انحرافاً عن سبيل الدفاع الوطني وولوجاً في دروب تكتنفها المهالك، عواقبها لا تقلّ فداحةً عن الحرب، وتفضي إلى تصدع البلاد وتشظيها من الداخل؛ وهو ما عجز الكيان الصهيوني عن تحقيقه منذ عقود، بينما تسعى حكومة لبنان اليوم إلى تقديم هذه الهبة سائغةً للمحتلين.
الموقف الصريح والشجاع للشيخ نعيم قاسم إزاء الخطر المحدق بلبنان
لم يكن خطاب الشيخ نعيم قاسم مجرد كلمات نابعة عن العواطف، بل أعلن من خلاله موقفه الرسمي وموقف المقاومة اللبنانية قاطبةً استناداً إلى تقويم عميق للمخاطر والخيارات المتاحة، أعاد أمين عام حزب الله في هذا الخطاب رسم حدود الردع السياسي وتعريف مقومات القوة اللبنانية؛ وهو أمر تأبى المقاومة المساومة بشأنه.
في هذا الخطاب، تطرق الشيخ نعيم قاسم إلى عدة نقاط بالغة الخطورة تتشابك خيوطها:
أولاً: القرار الذي اتخذته الحكومة اللبنانية في الخامس من أغسطس لنزع سلاح المقاومة، والذي داس عملياً قدرة لبنان الدفاعية في مجابهة تهديدات الكيان الصهيوني واعتداءاته.
ثانياً: الضغوط الأمريكية المباشرة التي استحالت إلى تعليمات جلية ينفذها أذنابها في لبنان بحذافيرها.
ثالثاً: الابتهاج الصهيوني العارم بهذا القرار اللبناني وإعراب بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان المحتل، عن سروره علناً، معتبراً قرار المسؤولين اللبنانيين بنزع سلاح المقاومة نصراً سياسياً لـ "إسرائيل"؛ أي ما عجز هذا الكيان عن بلوغه طوال أمد الحرب.
أكد الشيخ نعيم قاسم في خطابه أن المقاومة عقب انتهاء الحرب التزمت التزاماً تاماً بالنظام الوطني، واحترمت اتفاق وقف إطلاق النار، ويسّرت انتشار الجيش في جنوب لبنان، وتجرعت بصبر وأناة مرارة ثمانية أشهر من الاعتداءات المتواصلة والخروقات المتكررة لوقف إطلاق النار من قبل الكيان المحتل، مراعاةً للاعتبارات الوطنية العليا.
ما الذي دفع لهجة أمين عام حزب الله تجاه الحكومة اللبنانية نحو التحول؟
أما اللهجة الحازمة والحادة التي اتخذها أمين عام حزب الله في خطابه الأخير تجاه الحكومة اللبنانية، فمردّها أن المسؤولين اللبنانيين، رغم وعودهم السالفة، لم يفوا بأي من الأولويات، بما في ذلك الطرد التام للمحتلين من لبنان، ووقف عدوان الكيان الصهيوني على البلاد، وتحرير الأسرى اللبنانيين، وملف إعادة الإعمار، وقبل أن يتلقوا حتى ضمانات حقيقية بشأن هذه الملفات الجوهرية، قرروا الخضوع بلا قيد أو شرط للإملاءات الأمريكية-الصهيونية، والتخلي عن أثمن عناصر قوة لبنان وربما أوحدها، وتحويل البلاد إلى مسرح للعبث الإسرائيلي.
في الحقيقة، تنبثق المواقف التي اتخذها الشيخ نعيم قاسم من واقع أن الحكومة اللبنانية، طوعاً أو كرهاً، وعن وعي أو غير وعي، استحالت من شريك إلى خصم، وغدت قراراتها، بدلاً من أن تكون مظلةً لصون سيادة لبنان، غطاءً لتصفية المقاومة والعامل الوحيد للردع في البلاد.
بات جلياً أن الصمت في مثل هذه المواقف لم يعد موقفاً وطنياً، بل خيانة لدماء الشعب اللبناني الزكية، وأمين عام حزب الله الذي سعى خلال الأشهر الثمانية المنصرمة للحفاظ على هدوء الأجواء الداخلية اللبنانية، وظلّ إلى جانب الحكومة ومهّد الطريق لاضطلاعها بمسؤولياتها، اتخذ هذه المرة موقفاً مغايراً وطوى صفحة الصمت إلى غير رجعة.
تكشف القراءة المتمعنة لخطاب الشيخ نعيم قاسم أن موقفه، خلافاً لما يروّج له أعداء المقاومة، لم يكن انقلاباً على الحكومة، بل صيحة تحذيرٍ ضد انسلاخها عن دورها السيادي الحقيقي، وكما أكد أمين عام حزب الله، فإن المقاومة ليست نقيضاً للدولة أو منافساً لها على السلطة، بل شريك في حمايتها وصون كرامتها.
من هذا المنظور، فإن نزع سلاح المقاومة دون صياغة استراتيجية دفاع وطني واضحة المعالم، بقدر ما يُعدّ إجراءً مخالفاً للقانون، فهو بمثابة طيّ صفحة الميثاق الوطني والتنصّل من المهمة الجوهرية للدولة، ألا وهي حماية الشعب والذود عن سيادة البلاد.
حزب الله لا يبتغي الحرب لكنه يأبى الاستسلام
على هذا الأساس، دقّ خطاب الشيخ نعيم قاسم الأخير ناقوس الخطر في وجه الخطاب السياسي الرسمي في لبنان؛ ذلك الخطاب الذي تماهى مع أصوات المناوئين في الداخل والأعداء في الخارج في تصوير المقاومة كشبح يتهدد لبنان وعبء يثقل كاهله، بدلاً من التصدي للخطر الحقيقي المتربص بلبنان، وهو الكيان الصهيوني.
يکشف تحليل كلمات الشيخ نعيم قاسم أن الخطاب الذي يتبناه الأعداء في الداخل والخارج لا يستهدف المقاومة فحسب، بل يهدد كيان لبنان ذاته كوطنٍ تتعايش في ربوعه طوائف متنوعة، ويقوم على ميثاق وطني راسخ.
ثمة نقطة لافتة أخرى في خطاب الشيخ نعيم قاسم هي أنه، رغم المواقف الحازمة والصريحة التي أعلنها، انتهج سياسة احتواء الأزمة بحكمة بالغة، ورغم يقينه بأن إيماءةً منه كفيلة بدفع مئات الآلاف من أنصار المقاومة إلى الشوارع، لم يفعل ذلك قط، بل رسم معادلةً منطقيةً فحواها: “لسنا أبداً دعاة فتنة واضطراب، لكننا نأبى الاستسلام والانحناء”.
في هذه اللحظة الفارقة، ابتغى أمين عام حزب الله في الحقيقة أن يضع اللبنانيين أمام مرآة الحقيقة الناصعة أو يذكرهم بها، ويمنحهم فرصةً للتأمل والتبصر ليدركوا بأنفسهم من الذي يسعى حقاً لبذر بذور الشقاق، ومن الراسخ في الميدان كطود شامخ؟ من يخون الوطن ومن يصون عرينه؟ ومن يتخذ قرارات تنساق تماماً مع مخططات العدو الصهيوني-الأمريكي؟
رهان الصهاينة على وهن الحكومة اللبنانية بعد اندحارهم أمام المقاومة
کشف الشيخ نعيم قاسم كذلك أن لبنان يواجه اليوم من جهة الكيان الصهيوني الذي تتجلى أطماعه وأهدافه بوضوح تام، ويسعى بدعم أمريكي لتحقيقها، ومن جهة أخرى حكومة تحاول، بخنوعها لإملاءات العدو، أن تقدّم له، عن وعي أو غير وعي، ما عجز الأمريكيون والصهاينة عن اقتناصه طوال الحرب مع لبنان.
في هذا المضمار، لا يراهن الكيان الصهيوني على الحروب الميدانية فحسب، بل يشنّ حرباً أشدّ فتكاً ضد لبنان؛ ألا وهي تفكيك واستنزاف الجبهة الداخلية للبلاد وإيجاد طبقة سياسية جديدة مستعدة لتقويض المعادلة الدفاعية اللبنانية، مقابل تشبثها بالسلطة أو نيل تزكيات خارجية.
يكشف هذا الرهان الصهيوني بجلاء عن اندحارهم أمام المقاومة في الحرب الأخيرة؛ إذ يحاولون الحصول عبر الحكومة اللبنانية على ما أعياهم انتزاعه من حزب الله في ساحة الحرب.
من دون المقاومة، يغدو لبنان أثراً بعد عين
لذلك، قدّم خطاب الشيخ نعيم قاسم، دون أن يصرح بذلك علناً، خارطة طريق دقيقة لتقويم الوضع الراهن:
عناصر القوة: تماسك المقاومة البنيوي، الدعم الشعبي الراسخ، القدرة على اتخاذ القرار في ميدان النزال، وإمكانية الاستنفار عند اقتضاء الحاجة.
الضغوط: قرار الحكومة اللبنانية الرسمي بنزع سلاح المقاومة ودعم الغرب له، التلويح بسيف العقوبات، والانقسام الداخلي المتفاقم.
التهديدات: زجّ الجيش اللبناني في أتون مواجهة داخلية من قبل الحكومة، إذكاء نار الخلاف بين الطوائف المتعددة، وانهيار ثقة الشعب بالحكومة انهياراً مدوياً.
الفرص: تشكيل جبهة وطنية راسخة لحماية السيادة، استئناف النقاش حول استراتيجية دفاعية شاملة، وإلغاء قرار الحكومة بنزع سلاح المقاومة؛ ذلك القرار المحفوف بالمخاطر على مستقبل البلاد وأمنها واستقرارها.
في الواقع، لا يوصد خطاب الشيخ نعيم قاسم الباب أمام الخيارات، لكنه يرسم حدوداً لا تقبل التجاوز:
إذا ظلّ قرار الحكومة اللبنانية بنزع سلاح المقاومة حبراً على ورق وانطلق حوار جاد حول استراتيجية دفاعية، ستبقى المقاومة، كما كانت على الدوام، شريكاً للحكومة في الذود عن حياض البلاد.
أما إذا فُرض تنفيذ قرار نزع سلاح المقاومة بالقوة الغاشمة، فستقترف الحكومة اللبنانية خطيئةً لا تُغتفر بحق الوطن ولمصلحة الأعداء المتربصين، وقد يواجه لبنان خطراً يهدد كيانه ووجوده.
في جميع الأحوال، أكد خطاب الشيخ نعيم قاسم بوضوح جلي أن المقاومة لن تلقي سلاحها؛ لأن السلاح ليس مجرد بنادق وصواريخ، بل هو حقوق ودماء وسيادة وكرامة، في الحقيقة، شدّد أمين عام حزب الله مجدداً على أن ما أعجز العدو عن بلوغه في ساحات الحرب والنزال لن يظفر به عبر القرارات السياسية، وتبقى المعادلة ثابتةً رسوخ الجبال: لا وجود لأي حكومة في لبنان دون مقاومة تذود عن حياض البلاد، ولا وجود لأي مقاومة خارج إطار المصالح الوطنية اللبنانية العليا.
على هذا الأساس، يتعين على اللبنانيين أن يدركوا أن الخطر الحقيقي لا يكمن في وجود سلاح المقاومة، بل في رضوخ الحكومة اللبنانية للإملاءات الأمريكية-الصهيونية، وأن المواجهة لا تندلع عندما تذود المقاومة عن حقها وحق أبناء لبنان قاطبةً، بل عندما يعزم البعض على تصفية المقاومة خدمةً لمآرب العدو، زاعمين زوراً أن ذلك من أجل مصلحة الوطن.
بصفة عامة، كانت رسالة خطاب أمين عام حزب الله الأخير أن المقاومة ليست مجرد مكون طبيعي في نسيج لبنان، بل هي جوهر حي من روح البلاد النابضة، وطالما بقيت المقاومة شامخةً، سيبقى لبنان عزيزاً أبياً؛ وإلا فلن يكون هناك لبنان على الإطلاق، بل سيغدو أثراً بعد عين.