الوقت- في خضم المجازر المتواصلة التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي في قطاع غزة، والتي أسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء، وتدمير البنية التحتية بشكل شبه كامل، بدأ الكيان الإسرائيلي مؤخراً بالسماح في وصول "محدود" لبعض المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وقد روجت لذلك وسائل الإعلام الغربية وبعض الدول العربية بوصفه "انفراجة إنسانية"، في حين أن هذا الانفتاح الظاهري لا يعدو كونه مسرحية خادعة تهدف إلى تحقيق أهداف عسكرية وسياسية مبيّتة، بمباركة أمريكية وتواطؤ عربي.
أداة دعاية وخداع
تشير الشواهد الميدانية والتقارير الصحفية إلى أن دخول المساعدات إلى غزة ليس سوى حملة دعائية تهدف إلى امتصاص غضب الرأي العام العالمي بعد تداول مشاهد مرعبة لأطفال يموتون جوعًا، ونساء يتساقطن أثناء الركض خلف شاحنة مساعدات.
ويشير المحللون السياسيون إلى أن هذه المساعدات ما هي إلا مخطط خادع من الكيان الإسرائيلي لتوسيع العدوان وأن هذا الانفتاح ليس سوى عرض مسرحي شاركت فيه واشنطن وتل أبيب وبعض الدول العربية، دون أن يكون له أثر حقيقي على أرض الواقع.
فقد أظهرت التقارير أن ما يتم إدخاله إلى غزة لا يتعدى "الفتات" ولا يغطي الحد الأدنى من الحاجات الغذائية والطبية الملحّة، في وقت تواصل فيه "إسرائيل" استخدام سلاح التجويع كسلاح حرب، مخالفًا لكل القوانين الدولية والإنسانية.
تحكم صهيوني كامل في المعابر والمساعدات
منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، عملت "إسرائيل" بشكل ممنهج على إغلاق المعابر الحدودية، وخاصة معبر رفح، ومنع دخول الغذاء والدواء والوقود، وحتى حين سُمح مؤخرًا بدخول بعض الشاحنات عبر معبر كرم أبو سالم، كانت "إسرائيل" هي الجهة التي تحدد الكمية والنوعية والوجهة النهائية.
وحسب تقرير نشرته صحيفة الأخبار اللبنانية نقلاً عن مصادر مصرية، فقد تم نهب العديد من الشاحنات المحملة بالمساعدات المرسلة من الجانب المصري قبل أن تصل إلى وجهتها في غزة، وأشارت إلى أن بعض العصابات المدعومة من الاحتلال استولت على تلك المساعدات، ما يكشف عن وجود تنسيق خفي بين أجهزة الاحتلال وبعض الجماعات العميلة لفرض واقع جديد في غزة.
قصف متعمد لقوافل المساعدات وعرقلة التوزيع
في واقعة خطيرة تعزز من فرضية أن المساعدات لا تهدف إلى التخفيف عن المدنيين بل إلى السيطرة على القطاع، قامت المقاتلات الإسرائيلية بقصف مجموعات محلية وقبلية كانت تؤمن عبور شاحنات المساعدات، ما أدى إلى مقتل عدد من المتطوعين.
هذا الهجوم لم يكن استثناءً، بل يندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى إشاعة الفوضى في غزة، وتدمير أي بنية لوجستية أو مجتمعية قادرة على تنظيم توزيع المساعدات.
الهدف الحقيقي: تقسيم غزة وتغيير واقعها الجغرافي والديمغرافي
من خلال تتبع التصريحات الإسرائيلية الرسمية والتسريبات الصحفية، يتبين أن فتح باب المساعدات ما هو إلا غطاء لخطة أكبر تشمل إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة، وإنشاء مناطق عازلة، والسيطرة على الشريط الحدودي بالكامل.
فقد كشفت القناة 10 الإسرائيلية عن نقاشات داخلية في مجلس الوزراء بشأن تقسيم غزة، ومحاصرة المدن، وإجبار السكان على النزوح جنوبًا، وتثبيت سيطرة الاحتلال على المناطق الشمالية.
كما أوردت القناة 13 أن الحكومة الإسرائيلية ناقشت احتمالية توسيع العمليات العسكرية قريبًا، في حال لم تستجب حماس للمطالب الإسرائيلية، وهو ما يتقاطع مع خطة مبيّتة لتغيير الواقع السياسي والجغرافي لغزة تحت عنوان "المساعدات" و"المناطق الآمنة".
إفشال أي جهود دبلوماسية للوصول إلى تهدئة
من جهة أخرى، فإن ملف المفاوضات غير المباشرة بين "إسرائيل" وحماس لا يبدو أنه يسير نحو نتيجة، بل تشير التقارير العبرية إلى أن بنيامين نتنياهو يخطط لإفشال أي اتفاق حتى لو كان جزئيًا.
صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلت عن مسؤول أمني إسرائيلي أن نتنياهو يبحث عن ذريعة لاتهام حماس بخرق الاتفاق مستقبلاً، كي يتملص من أي التزام نهائي ويعود للتصعيد العسكري.
هذا يعكس نية الاحتلال الاسرائيلي استغلال المبادرات الإنسانية والدبلوماسية كأدوات تكتيكية مؤقتة لا أكثر، بغرض إعادة ترتيب أوراقها السياسية والعسكرية على الأرض.
تواطؤ أمريكي ودعم مطلق للجرائم
في هذا السياق، لا يمكن فصل الدور الأمريكي عن المشهد، فمنذ بداية الحرب، كانت واشنطن داعمًا ثابتًا لكل خطوات "إسرائيل"، من تسليحها إلى تغطية جرائمها في مجلس الأمن.
ويُلاحظ أن المبعوث الأمريكي ستيف وِتكاف هو من يشرف على المفاوضات الجارية، ما يشير إلى أن الولايات المتحدة هي من تدير اللعبة فعليًا، وتسعى إلى تهدئة سطحية تبقي على قبضة الاحتلال مشدودة، دون حل سياسي حقيقي.
وليس غريبًا أن تتزامن تلك التحركات مع صمت مخزٍ من معظم الأنظمة العربية، التي اكتفت ببعض البيانات الخجولة، فيما تورط بعضها في التنسيق اللوجستي مع الاحتلال لتوزيع مساعدات لا تصل لمستحقيها.
مساعدات مشروطة بالاحتلال والتبعية
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد كارثة إنسانية، بل هو مشهد مركب من الحصار، والتجويع، والقتل الجماعي، والتهجير، تحت يافطة "المساعدات الإنسانية"، "إسرائيل" لا تريد إنقاذ الغزيين، بل تريد إخضاعهم عبر فتات الغذاء والدواء، وبالتنسيق مع واشنطن وبعض العواصم العربية.
إن السماح بدخول المساعدات ليس سوى وسيلة خادعة لاستكمال المشروع الصهيوني القائم على التهجير، والتقسيم، وطمس هوية غزة ونتنياهو لا يريد الالتزام بأي اتفاق.
وهذا ما يجب أن تدركه كل القوى الحرة في العالم، لا يمكن أن تكون المساعدات طريقًا للسيطرة، ولا أن يُستخدم الجوع أداة سياسية، فغزة لا تحتاج إلى فتات الغذاء بقدر ما تحتاج إلى كسر الحصار وإنهاء الاحتلال.