الوقت- في مشهدٍ ينتمي إلى فنون الحرب النفسية أكثر من كونه استجابة إنسانية، أقدم الكيان الإسرائيلي على تنفيذ ما وصفته منظمات دولية بأنه "عرض استعراضي مخادع" يتمثل في إسقاط مساعدات إنسانية من الجو على قطاع غزة، بينما يُخضع أكثر من مليوني إنسان لحصار خانق حوّل الجوع والموت البطيء إلى واقع يومي.
المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها وكالة "الأونروا"، لم تتأخر في فضح هذه الخطوة التي اعتُبرت محاولة رخيصة لتلميع صورة الكيان الغارق في جرائم التجويع، وصرف أنظار العالم عن جريمة الحصار الكلي التي يفرضها منذ شهور على القطاع، والذي حوّل لقمة العيش وجرعة الدواء إلى ترفٍ بعيد المنال.
الجوع كسلاح: الكيان الإسرائيلي يصنع الكارثة ثم يدّعي الإغاثة
منذ مارس الماضي، صعّد الكيان الإسرائيلي من سياسة الحصار الشامل على قطاع غزة، مانعًا دخول الغذاء والوقود والدواء، ومستهدفًا البنية التحتية للمياه والكهرباء والمشافي بشكل ممنهج، وفي ظل هذا الحصار، بدأ يظهر شكل جديد من أشكال الإبادة، الإبادة بالجوع، حيث باتت صور الأطفال والرضّع الذين يموتون جوعًا وسوء تغذية، تتصدر تقارير المنظمات الطبية.
تحت ضغط دولي متزايد ومع تزايد التوثيقات التي تُظهر الأثر الكارثي للجوع في القطاع، لجأ الكيان الإسرائيلي إلى خطوة دعائية تمثّلت في إسقاط كميات محدودة من المساعدات عبر الطائرات، في مشهد أشبه بـ"عرض سينمائي"، لا يمت بصلة لجوهر العمل الإنساني أو التزامات القانون الدولي.
لازاريني: ما يجري خداع إعلامي لا يُطعم الجياع
وفي هذا السياق، خرج المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، بتصريح حاد عبّر فيه عن رفضه المطلق لهذا النوع من "الإغاثة الزائفة"، وقال:
"اقتراح إسقاط المساعدات جواً على غزة ليس أكثر من وسيلة لصرف أنظار الرأي العام عن الواقع المرعب على الأرض، إنها طريقة مكلفة، غير فعّالة، وخطيرة جدًا على المدنيين الذين يسعون بيأس وراء لقمة العيش".
وشدد لازاريني على أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الأرواح في غزة هي فتح المعابر البرية فورًا، وإدخال المساعدات عبر الشاحنات بشكل يومي ومنتظم، مشيرًا إلى أن 6000 شاحنة محملة بالمساعدات تقف في الأردن ومصر منذ أسابيع، تنتظر الضوء الأخضر من الكيان الإسرائيلي للدخول إلى القطاع.
وأضاف: "هذه الكارثة ليست طبيعية، إنها كارثة من صنع الإنسان، والمشكلة ليست في غياب الموارد، بل في غياب الإرادة السياسية لفتح المعابر وإنهاء الحصار، هذا ما يجب أن يُركز عليه المجتمع الدولي."
"المساعدات الجوية" مهينة ومهندسة سياسياً
من جهتها، أصدرت منظمة "أورو-ميد" لحقوق الإنسان بيانًا مطولًا، وصفت فيه الخطوة بأنها:
"إهانة لكرامة الإنسان الفلسطيني، ومحاولة أخرى لتكريس سياسة الجوع كسلاح سياسي وعسكري يستخدمه الكيان الإسرائيلي لتحقيق أهدافه."
وجاء في البيان أن:
- إسقاط المساعدات من الجو يمثل خطرًا جسيمًا على أرواح المدنيين، وخاصة أن معظم سكان غزة محاصرون في منطقة لا تتجاوز 15% من مساحة القطاع، ما يجعل أي إسقاط جوي عشوائي عرضة للتسبب في إصابات وقتلى.
- هذه الطريقة لا تلبي الحد الأدنى من احتياجات السكان، بل تزيد الوضع سوءًا من خلال خلق تدافع واختناقات في أماكن السقوط.
- الهدف الأساسي من هذه الخطوة هو امتصاص الغضب الدولي، وخلق انطباع زائف بأن الكيان يسعى لحل الأزمة.
كما حذّرت المنظمة من خطورة القبول بهذه الآلية كبديل عن فتح المعابر، مؤكدة أن الحل الوحيد يكمن في إنهاء الحصار الظالم والسماح بتدفق المساعدات بشكل حر ومنظم ومنسق.
سجل دموي سابق "المساعدات القاتلة"
ليست هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها المساعدات الجوية كأداة دعائية، ففي العام الماضي، أقدمت بعض الدول الغربية والعربية، ومنها الولايات المتحدة، على إسقاط مساعدات عبر المظلات على مناطق في غزة، ما أدى إلى مصرع عدد من المدنيين الذين هرعوا إليها، إما بسبب سقوط الشحنات عليهم، أو بسبب التدافع والاشتباكات.
هذه الحوادث وثّقتها منظمات محلية ودولية، ما دفع العديد من الأصوات إلى التحذير من تكرار هذه التجربة، واعتبارها شكلًا جديدًا من الإذلال والتلاعب السياسي بمأساة إنسانية.
منظمة الصحة العالمية: كارثة تتسارع والأطفال في مرمى الموت
أظهرت تقارير منظمة الصحة العالمية أن القطاع يعيش وضعًا يتجاوز تعريف المجاعة، إذ بات هناك مئات الآلاف من الأطفال والرضّع في غزة يعانون من سوء تغذية حاد، بينما سجلت وزارة الصحة المحلية وفاة عشرات الأطفال خلال الأسابيع الأخيرة بسبب الجوع أو أمراض كان يمكن تفاديها بسهولة.
وأشارت المنظمة إلى أن:
- أكثر من 650 ألف طفل في غزة باتوا في دائرة الخطر المباشر.
- المستشفيات تستقبل يوميًا أعدادًا غير مسبوقة من المرضى المصابين بالجفاف وسوء التغذية.
- غالبية الأسر لم تتمكن من توفير وجبة واحدة متكاملة خلال أسابيع.
هذه الأرقام، وإن بدت صادمة، إلا أنها لا تحرّك ضمير المجتمع الدولي بالصورة المطلوبة، وخاصة في ظل الغطاء الأمريكي والدولي الممنوح للكيان الإسرائيلي.
سياسة "هندسة الجوع" لفرض شروط سياسية
العديد من الباحثين في الشؤون الإنسانية اعتبروا أن ما يجري في غزة ليس مجرّد أزمة إنسانية عارضة، بل سياسة ممنهجة تُعرف باسم "هندسة الجوع"، أي استخدام التجويع كأداة ضغط سياسي.
في هذا الإطار، تسعى سلطات الاحتلال من خلال هذا الحصار، إلى:
- إضعاف المجتمع الفلسطيني وتفكيك بنيته الداخلية.
- ابتزاز القيادة السياسية والمقاومة الفلسطينية.
- فرض شروط ميدانية وعسكرية على الأرض عبر إحداث أكبر قدر ممكن من الانهيار الإنساني.
وبينما يعاني الغزيون من هذا الجوع المركّب، تسعى حكومة الاحتلال إلى نقل المعركة من الميدان العسكري إلى الميدان الإنساني، معتقدة أن الحصار والتجويع سيدفعان الناس إلى اليأس والاستسلام.
رسائل دعائية موجهة للغرب وليس للفلسطينيين
اللافت في "مشهد إسقاط المساعدات" أنه لم يكن موجّهًا للفلسطينيين أنفسهم، بل إلى الرأي العام الدولي، وتحديدًا الأوروبي والأمريكي، الذي بدأ يشعر بالحرج من صور المجاعة والموت في غزة، في ظل تغطيات إعلامية لم يعد بالإمكان إخفاؤها.
بهذا المعنى، يسعى الكيان الإسرائيلي إلى:
- التقليل من حدة النقد الدولي.
- إظهار نفسه كطرف "متعاون" في المجال الإنساني.
- امتصاص غضب المنظمات الحقوقية التي بدأت تصف الوضع في غزة بأنه يرقى إلى جريمة إبادة جماعية.
لكن الواقع أن هذه الخطوات لا تعدو كونها جزءًا من آلة دعائية كاذبة، تسعى لتبرئة الكيان من مسؤولية مجاعةٍ فرضها عمدًا وبقرارات عسكرية وسياسية مباشرة.
دعوات متصاعدة لرفع الحصار فورًا
وسط هذا الواقع المأساوي، تتصاعد دعوات المنظمات الدولية والناشطين الإنسانيين لرفع الحصار عن غزة فورًا، دون شروط أو مساومات، فالوضع لا يحتمل مزيدًا من التسويف أو الإلهاء الدعائي.
مفوض الأونروا لازاريني لخص الموقف الدولي بقوله:
"الطريقة الوحيدة لإنقاذ غزة هي إدخال المساعدات عبر البر، ووقف هذه السياسة اللاإنسانية، لا يمكن أن نبرر استمرار موت الناس بالجوع في عالم يفيض بالموارد والغذاء".
لا للمساعدات المسرحية... نعم للعدالة الإنسانية
إنّ ما يقوم به الكيان الإسرائيلي من عروض جوية واستعراضات إعلامية تحت مسمى "إغاثة"، هو في حقيقته محاولة لتغطية واحدة من أبشع الجرائم الجماعية في العصر الحديث، فحين يُستخدم الجوع كوسيلة حرب، لا تكون المساعدات الجوية حلاً، بل مجرد أداة خداع.
اليوم، المطلوب ليس "إسقاط طرود"، بل إسقاط الحصار
المطلوب ليس مظلّات تحمل علب غذاء، بل قرارات دولية صارمة تجبر الكيان على فتح المعابر، وتُحمّله المسؤولية الكاملة عمّا يجري في غزة.
الجوع في غزة ليس كارثة طبيعية... إنه قرار سياسي والمساعدات المسرحية لن تخفي الحقيقة.