الوقت- "لا أحد يموت من الجوع"... كانت هذه الجملة البسيطة لسنوات طويلة بمثابة طمأنة شعبية يتداولها الناس في مواجهة المصاعب، حتى في أكثر المجتمعات فقرًا، لكن في غزة، هذا المثل الشعبي تحوّل اليوم إلى كذبة مؤلمة، بل إلى نكتة سوداء تفضح عجز العالم وصمته، فالجوع اليوم لا يقتل في الخفاء، بل أمام عدسات الكاميرا، وعلى مرأى من الضمير الإنساني الذي أصابه الشلل.
منذ أشهر، يفرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا خانقًا على قطاع غزة، مانعًا دخول الغذاء والدواء والماء، في سياسة تجويع ممنهجة تستهدف المدنيين، وخاصة الأطفال، ومع تصاعد العدوان، لم يعد الموت جوعًا في غزة حادثًا استثنائيًا، بل ظاهرة متكررة ومتصاعدة تحصد أرواح الأبرياء، وسط عجز المجتمع الدولي وتواطؤ كثير من المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان.
سياسة التجويع الممنهج: حين يتحوّل الطعام إلى سلاح
الحرب في غزة ليست فقط قنابل ودمار، بل حرباً من نوع آخر أكثر خفاءً وفتكًا: حرب التجويع، منذ بداية العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، فرضت "إسرائيل" حصارًا مطبقًا على القطاع، ومنعت دخول الشاحنات المحملة بالغذاء والماء والوقود، بل استهدفت عمدًا المخابز ومخازن الغذاء ومراكز التوزيع.
منذ مارس الماضي، شدّد الاحتلال حصاره، فارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل خيالي، واختفت السلع الأساسية، وتحولت محاولات الحصول على الطحين (الدقيق) إلى مغامرات يومية محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدي أحيانًا إلى الموت في طوابير المساعدات.
وحسب منظمة "أوكسفام"، فإن 80% من سكان غزة يتناولون وجبة واحدة غير كافية يوميًا، و45% من الأطفال تحت سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد، أما وزارة الصحة في غزة، فأعلنت وفاة ما لا يقل عن 67 طفلاً بسبب الجوع وسوء التغذية، مشيرة إلى أن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر بكثير بسبب انهيار منظومة الإحصاء الطبي.
الأطفال الضحايا الأوائل: عبدالعزيز وعائلته نموذجًا
الطفل عبدالعزيز علي، البالغ من العمر 7 سنوات، لا يستطيع الوقوف على قدميه من شدة الضعف، بسبب الجوع المتواصل وسوء التغذية الحاد، شقيقاه، إبراهيم (9 سنوات) وسلمى (11 سنة)، يعانون من الحالة نفسها، في مشهد يختصر المأساة كلها، والدتهم، "أم عبدالعزيز"، أرملة تكافح كل يوم لتأمين رغيف خبز لأطفالها، دون جدوى.
تقول الأم المكلومة في مقابلة صحفية: "منذ يومين لم نأكل شيئًا سوى الماء، حتى هذا الماء أصبح نادرًا، أبحث في أسواق مخيم الشاطئ عن كيلو طحين فلا أجده، وإن وجدته فبسعر لا يُصدق: أكثر من 20 دولارًا!".
تضيف: "أعود خائبة إلى خيمتي، أنظر إلى أطفالي وهم يتألمون من الجوع، ولا أستطيع فعل شيء، فقدت القدرة حتى على البكاء".
قصة عبدالعزيز ليست استثناء، بل نموذجًا يتكرر في كل بيت غزي، حيث بات الأطفال يُولدون ويموتون في بيئة معدومة من الغذاء والرعاية.
الطحين سلعة فاخرة، والخبز حلم
يقول محمود سالم، صاحب محل للمواد الغذائية أغلقه بسبب نفاد البضائع: "لم أرَ الأسواق بهذا الشكل في حياتي، لا طحين، لا أرز، لا عدس، وحتى الخضروات لم تعد متوافرة، كيلو الطحين وصل إلى 24 دولارًا، أي ما يعادل راتب أسبوعي لعامل فلسطيني عادي!".
ويتابع: "بعض التجار يستغلون الوضع ويحتكرون المواد القليلة المتوافرة، في حين تمنع "إسرائيل" بشكل متعمد دخول الإمدادات، بل تستهدف المساعدات الإنسانية وتنهبها عبر المليشيات التي أدخلتها مع الفوضى".
لقد بات الخبز في غزة عملة نادرة، ورفاهية لا يقدر عليها إلا المحظوظون، بينما يكتفي غالبية السكان بتناول أوراق الشجر، أو حتى لا شيء.
الموت جوعًا في زمن الإنسانية المُزيفة
في مشهد سريالي، يعيش الفلسطينيون في غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة في العصر الحديث، في ظل توافر إمكانيات لوجستية عالمية كفيلة بإطعام قارة بأكملها، لا مجرد شريط ساحلي صغير محاصر.
تقول تقارير برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية إن ما يجري في غزة ليس مجرد "أزمة إنسانية"، بل تجويع متعمد، و"عقاب جماعي" يرقى إلى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، حسب القانون الدولي.
لكن العالم الغربي، الذي لطالما رفع شعارات حقوق الإنسان، يلتزم صمتًا مريبًا، بل إن بعض الحكومات، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تواصل دعمها العسكري والسياسي غير المشروط لـ"إسرائيل"، متجاهلة الصور الصادمة لجثث الأطفال الذين ماتوا جوعًا، أو أولئك الذين تُحفر لهم قبور جماعية لأن أجسادهم أنهكتها المجاعة.
الجوع كأداة تهجير: غايات الاحتلال من التجويع
ليست سياسة التجويع هدفًا عشوائيًا، بل استراتيجية مدروسة ضمن سياسة "الضغط القصوى" التي تمارسها إسرائيل على سكان غزة. الهدف واضح: تركيع الناس، دفعهم إلى الاستسلام، أو إجبارهم على النزوح القسري من أرضهم.
ففي ظل المجازر، والقصف، وتدمير المستشفيات والمدارس والمخابز، ومع انعدام الغذاء والماء، لم يتبقَّ للفلسطيني سوى خيارين: الموت جوعًا أو الهرب، وهنا تتحقق غاية الاحتلال الصهيوني القديمة الجديدة: تفريغ غزة من سكانها.
الطفلة أميرة: بين المرض والجوع
قصة أخرى تلخص فداحة الكارثة: الطفلة "أميرة"، ذات العشرة أعوام، تعاني من ورم دماغي، شُخّصت حالتها قبيل الحرب، لكن الحرب حالت دون علاجها، يقول والدها أحمد سعيد: "لا دواء، لا مستشفى، ولا حتى لقمة خبز أُعطيها لها، أشاهد ابنتي تموت ببطء أمام عيني، ولا أستطيع إنقاذها".
الجوع زاد حالتها الصحية تدهورًا، فدخلت في غيبوبات متكررة، بينما لا يجد والدها سوى الصمت والحسرة، عاجزًا عن توفير حتى كوب حليب لها.
ما يجري في غزة اليوم وصمة عار في جبين الإنسانية، لقد سقطت كل الأقنعة، وبات الجوع أداة قتل جماعي، تستخدمها دولة تُعتبر حليفًا للديمقراطيات الغربية، ومقولة "لا أحد يموت من الجوع" سقطت في غزة، وانهارت أمام مشاهد الأجساد النحيلة، والعيون الغائرة، والأمهات الباكيات على أطفال ماتوا من الجوع.
غزة لا تطلب الكثير، لا تطلب طائرات ولا صواريخ، فقط رغيف خبز، وكوب ماء، ودواء لطفل مريض، لكنها لا تحصل حتى على ذلك، لأن المجتمع الدولي خذلها، وتركها تواجه جوعًا أشد من الموت نفسه.
ورغم كل ذلك، فإن أهل غزة، بصمودهم، يعيدون تعريف معنى الحياة في زمن الوحشية، ويثبتون أن الكرامة أثمن من الخبز، وأن الشعوب لا تموت جوعًا، بل تموت إذا استسلمت... وغزة لم ولن تستسلم.