الوقت - بعد أربعة عقود من الكفاح المسلح ضد الدولة التركية، قرّر قادة حزب العمال الكردستاني الشروع في عملية نزع السلاح، وفي هذا السياق، شهدت محافظة السليمانية في العراق يوم الجمعة الماضي، مراسم رمزية سلّم فيها ثلاثون فرداً من أعضاء هذه الجماعة أسلحتهم، وقد أُقيمت هذه المراسم بحضور شخصيات سياسية ومسؤولين رسميين من العراق وإقليم كردستان، إلى جانب ممثلين عن تركيا، وأعرب قادة حزب العمال الكردستاني والمسؤولون الأتراك عن أملهم في أن يُشكّل هذا الحدث خطوةً محوريةً نحو تحقيق سلام مستدام خالٍ من العنف.
إنّ هذا الحزب، الذي بدأ نشاطه المسلح عام 1984 كقوة كردية تقاوم الدولة التركية، تطوّر عبر الزمن ليُصبح شبكةً عابرةً للحدود ذات فروع وحلفاء في العراق وسوريا وإيران، وبالتالي، فإنّ أي تغيير جذري في الوضع العسكري لهذا الحزب لن تقتصر آثاره على تركيا وحدها، بل ستمتد لتشمل المنطقة بأسرها، ما سيترك تداعيات عميقة على المشهد الإقليمي برمّته، لذا، فإنّ هذا التطوّر يُعدّ نقطةً محوريةً تستدعي التحليل في سياق خفض التوترات في غرب آسيا، بالنظر إلى أبعاده المتعددة وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة على الفاعلين الإقليميين وتوازن القوى في المنطقة.
التداعيات الإقليمية لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني (PKK)
من المنظور السياسي، يُمكن أن يُشكّل نزع سلاح حزب العمال الكردستاني (PKK)، خطوةً محوريةً في انتقال هذا الحزب من حركة مسلحة إلى قوة سياسية مدنية، تُمهد الطريق لتغيير جوهري في طبيعة نشاطه، وفي تركيا، قد يُتيح هذا التحوّل فرصةً لإحياء مسار السلام بين الحكومة التركية والأكراد، وهو المسار الذي تعثر لسنوات بسبب انعدام الثقة، الصراعات العسكرية، والسياسات المتشددة التي انتهجتها أنقرة.
وفي حال تحقيق نزع السلاح بشكل كامل، ستشهد تركيا تغييرات هيكلية في سياستها الداخلية، إذ يُتوقع أن تواجه الحكومة انخفاضاً ملحوظاً في التهديدات الأمنية شرقاً وجنوب شرق البلاد، ما سيُحرّر موارد مالية وبشرية كبيرة تُوظّف في تطوير هذه المناطق وتنميتها اقتصادياً.
أما على الصعيد الإقليمي، فالتداعيات السياسية ستكون ذات أبعاد واسعة، ففي إيران، يُعتبر الجناح المرتبط بحزب العمال الكردستاني، المعروف باسم “بيجاك”، أحد التحديات الأمنية الكبرى التي نفّذت في السنوات الماضية عملياتٍ مسلحة ضد الجمهورية الإسلامية في المناطق الحدودية غرب البلاد، لذا، فإن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، مع تقليص الدعم اللوجستي والأيديولوجي لـ"بيجاك"، قد يُفضي إلى إضعاف هذا التنظيم وتخفيف حدة التوترات والاشتباكات الحدودية.
وفي العراق، كان لحزب العمال الكردستاني وجود عسكري نشط في المناطق الجبلية شمال البلاد، ولا سيما في جبال قنديل ومنطقة سنجار، ما أدى إلى تصاعد التوترات مع الحكومة المركزية في بغداد، حكومة إقليم كردستان، وتركيا، لذا، فإن نزع سلاح هذا الحزب يُمكن أن يُساهم في تقليل حدة النزاعات في هذه المناطق.
وعلى مستوى التنمية، فإن نزع السلاح يُمكن أن يُمهّد الطريق لإعادة إعمار المناطق التي تضررت بسبب الحروب والصراعات المسلحة، مثل دياربكر في تركيا، قنديل في العراق، والحسكة في سوريا، هذه المناطق، التي عانت لعقود من آثار النزاع، قد تستفيد من أجواء جديدة تُحفّز التنمية الاقتصادية، وإعادة بناء البنية التحتية، وجذب الاستثمارات المحلية والدولية. كما أن عودة النازحين والسكان المحليين الذين اضطروا إلى مغادرة ديارهم في السنوات الماضية، قد تُسهم في تعزيز عملية إعادة التوازن الاجتماعي وخلق بيئة مستقرة للحياة.
وعلى صعيد إقليم كردستان العراق، فإن إنهاء النشاط العسكري لحزب العمال الكردستاني، قد يُقلّل من التحديات الأمنية التي واجهتها حكومة أربيل، فقد خاض الحزب في السنوات الأخيرة منافسةً وصراعاً مع حزب الديمقراطي الكردستاني العراقي وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وتأمل أربيل أن يُتيح نجاح عملية السلام في تركيا فرصةً لتحسين علاقاتها مع أنقرة، وتعزيز التعاون الاقتصادي معها، والضغط لوقف العمليات العسكرية التركية التي استهدفت قرى ومدناً داخل الإقليم.
وفي السياق ذاته، فإن تقليص الذرائع التي تُبرّر الوجود العسكري التركي داخل الأراضي العراقية، قد يُمكّن الحكومة العراقية من اتخاذ موقف أكثر صرامةً تجاه انتهاك سيادتها الوطنية، وهذا التطور قد يُعزّز استقرار العراق ويُكرّس سيادته على أراضيه.
أما من الناحية الأمنية، فإن انخفاض الصراعات والهجمات العسكرية بين الجيش التركي وقوات حزب العمال الكردستاني في المناطق الحدودية، يُمكن أن يُفضي إلى استقرار أكبر في جنوب شرق تركيا، وشمال العراق، وحتى المناطق الكردية في سوريا.
لقد استخدمت أنقرة على مدى العقد الماضي تهديد حزب العمال الكردستاني، كذريعة لتوسيع وجودها العسكري في شمال العراق وسوريا، ومع تراجع التهديد المباشر من الحزب، يُتوقع أن يتزايد الضغط الدولي على تركيا لسحب قواتها من هذه المناطق، هذا الملف، الذي شكّل أحد أبرز نقاط الخلاف بين بغداد وأنقرة في السنوات الماضية، يُثير تساؤلات حول عدد القواعد العسكرية التركية غير القانونية في شمال العراق، والتي تشير التقديرات إلى أنها تتراوح بين 20 و80 قاعدة، ممتدةً على عمق يصل إلى 30 إلى 50 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية.
وقد دأبت الحكومة العراقية على إدانة الوجود العسكري التركي في أراضيها، إلى جانب الغارات الجوية التي انتهكت سيادة البلاد، ورفعت شكاوى إلى الأمم المتحدة ضد أنقرة، ومع إعلان حزب العمال الكردستاني عن عزمه التخلي عن السلاح، يأمل العراقيون أن تُبادر تركيا إلى سحب قواتها العسكرية دون أعذار أو مماطلة، ومع ذلك، لم تُصدر الحكومة التركية بعد أي موقف واضح حيال هذا الأمر.
التحديات ما زالت قائمة
على الرغم من موافقة قادة حزب العمال الكردستاني (PKK) الرئيسيين على الشروع في عملية نزع السلاح، إلا أن طريق السلام لا يزال محفوفًا بالتحديات والمخاطر الجسيمة، ولا سيما مع عدم انضمام الفصائل الكردية في سوريا إلى هذا المسار حتى الآن، إذ ترى أنقرة أن قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، التي تحظى بدعم أمريكي، ليست سوى امتداد لحزب العمال الكردستاني، وتشكل تهديدًا مباشرًا لأمن تركيا القومي، ومن ثمّ يتوجب نزع سلاحها بالكامل.
في المقابل، ينفي قادة الأكراد السوريون، وعلى رأسهم حزب الاتحاد الديمقراطي السوري (PYD)، هذا الادعاء، ويؤكدون أنهم حركة مستقلة تهدف إلى الدفاع عن مناطقهم وحماية السكان المحليين من تنظيم "داعش".
هذا التباين في وجهات النظر يُلقي بظلاله الثقيلة على أي عملية سلام محتملة بين الأكراد وتركيا، حيث تُصر أنقرة على تفكيك البنى المسلحة لحزب العمال الكردستاني بالكامل في سوريا، بينما يرفض قادة الأكراد السوريون قبول مثل هذه الشروط المسبقة، وإذا استمر هذا المأزق، فإنه لن يُعرقل فقط إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل في شمال سوريا، بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية، تتمثل في إعادة إشعال دوامة العنف التي قد تُهدد بفشل العملية برمتها.
وفي ظل غياب رؤية متفائلة وواضحة لحل هذا التحدي، تسعى بعض الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، للقيام بجهود وساطة، حيث تُبذل محاولات لجمع الأكراد السوريين مع الحكومة الجديدة في دمشق، بقيادة أبو محمد الجولاني، بهدف التوصل إلى اتفاق لحل النزاعات ودمج الفصائل المسلحة الكردية ضمن القوات النظامية السورية. إلا أن غياب هذا الاتفاق سيُبقي آفاق السلام بين الأكراد وتركيا غامضةً ومليئةً بالمخاطر.
لقد أثبت التاريخ أن منطقة غرب آسيا، حتى مع إنهاء أزمة واحدة فيها، قد تكون عرضةً لظهور أزمات جديدة، ما لم يُرافق ذلك رؤية بعيدة المدى وتخطيط دقيق، لذلك، فإن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، إذا ما تمّ بالتعاون مع الحكومة التركية، وبما يُزيل تهديدات الاحتلال والتوتر في كل من العراق وسوريا، قد يكون خطوةً واعدةً نحو تحقيق استقرار دائم. إلا أن التنفيذ الخاطئ لهذه العملية قد يُنتج حالةً جديدةً من عدم الاستقرار، تُعيد إشعال فتيل الصراعات في المنطقة.