الوقت- في خضمّ الحرب المستمرة على قطاع غزة، برزت تصريحات غير مسبوقة من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، جاءت هذه المرة من أحد أقطابها السابقين، الجنرال المتقاعد "إسحاق بريك"، الذي وجه نقداً لاذعاً لسياسات "الجيش الإسرائيلي" وكشف عن ما وصفه بـ"حقائق صادمة" حول مجريات الحرب.
تمثل هذه التصريحات تحولاً لافتاً في الخطاب الداخلي الإسرائيلي، وتكشف عن انقسامات حادة في النظرة إلى جدوى الحرب وأهدافها ونتائجها، ما يميز تصريحات بريك أنها لا تأتي من معارض سياسي أو صوت خارجي، بل من داخل المؤسسة الأمنية نفسها، ما يمنحها ثقلاً وتأثيراً مضاعفاً.
وفي الوقت الذي يسعى فيه القادة الإسرائيليون إلى تصوير الحرب كضرورة أمنية، يبرز هذا الصوت ليشير إلى عجز الجيش، وتآكل الردع، وارتفاع تكلفة الحرب السياسية والعسكرية والبشرية، هذه المقالة تحاول تحليل دلالات هذه التصريحات، وانعكاساتها على الجيش والمجتمع الإسرائيلي، وعلى مجريات الصراع الأوسع في المنطقة.
أزمة ثقة داخل المؤسسة العسكرية "الإسرائيلية"
تصريحات الجنرال إسحاق بريك تعكس أزمة ثقة عميقة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وهي أزمة لم تعد قابلة للإخفاء أو الاحتواء، حين يعلن جنرال مخضرم أن "الجيش الذي كان يظن نفسه الأقوى في غرب آسيا هُزم على يد حماس"، فإن ذلك يمثل إدانة صريحة لفعالية الجيش وقدرته العملياتية، لم يقتصر نقد بريك على الأداء العسكري فقط، بل تعدّاه ليصل إلى التشكيك في صدق القيادة السياسية والعسكرية، واصفاً وعودها السريعة بهزيمة حماس بأنها "أكاذيب".
هذا النوع من الخطاب يعكس خللاً بنيوياً يتجاوز إخفاقات ميدانية إلى اهتزاز في العقيدة القتالية والثقة الداخلية. بل ويمكن القول إن تصريحات بريك تفتح الباب أمام تساؤلات داخلية كبرى حول جاهزية الجيش، وكفاءة استراتيجياته، ومدى تماسكه في ظل الضغوط السياسية والعسكرية. هذه الأزمة لا تنحصر في النخب العسكرية، بل تمتد إلى الشارع الإسرائيلي الذي يتابع مشاهد القصف والخسائر دون نتائج ملموسة، ما يفاقم الشكوك بشأن جدوى هذه الحرب ومآلاتها، إن هذا التصدع الداخلي قد تكون له آثار استراتيجية بعيدة المدى، ليس فقط على الجيش بل على تماسك الدولة الإسرائيلية نفسها.
التحوّل في خطاب الردع وفقدان الهيبة
أحد أكثر ما يلفت الانتباه في تصريحات الجنرال بريك هو إقراره بتآكل قوة الردع الإسرائيلية، لقد طالما شكلت "الهيبة العسكرية" إحدى ركائز الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، واستُخدمت كأداة لإبقاء الخصوم في موقع الدفاع، لكن حين يعترف قائد سابق بأن هذه الهيبة قد "تضررت بشكل بالغ"، فإن ذلك يعني أن "إسرائيل" لم تعد الطرف الذي يملي المعادلات، بل باتت مضطرة للتكيف مع متغيرات ميدانية تفرضها أطراف مثل حماس.
فشلت الحملات الجوية في تحقيق أهدافها، ولم يتمكّن الجيش من تحييد المقاومة أو إضعاف بنيتها التحتية بشكل فعّال، بل على العكس، ازدادت حماس جرأة واستمرّت في شن الهجمات وإدارة المعارك، فقدان الهيبة لا يؤثر فقط في ميزان القوى مع غزة، بل يفتح الباب أمام قوى إقليمية أخرى – كحزب الله وإيران – لإعادة حساباتها وفق قراءة جديدة لمحدودية القوة الإسرائيلية.
ويعني هذا أن الردع لم يعد عنصراً مضموناً، بل بات بحاجة إلى إعادة بناء – وهو ما يتطلب سنوات وجهوداً استراتيجية مضنية، وقد لا يكون قابلاً للتحقيق في ظل واقع سياسي وعسكري منقسم، هذا التحول يشكّل خطراً وجودياً لـ"إسرائيل" التي تأسست على فرضية التفوق المطلق.
التكلفة الإنسانية والسياسية لحرب بلا أفق
من بين النقاط الأكثر أهمية التي أثارها الجنرال بريك، هي الإشارة إلى أن الجيش "يقصف المدنيين وليس حماس"، ما يسلط الضوء على البعد الأخلاقي والسياسي الكارثي لهذه الحرب، فبينما يروّج القادة الإسرائيليون لمقولات استهداف "بنية الإرهاب"، فإن الواقع على الأرض يظهر غير ذلك: مجازر بحق المدنيين، عمليات تهجير قسري، دمار واسع في البنية التحتية، وتفاقم المعاناة الإنسانية في قطاع محاصر.
هذه الوقائع لا تضعف فقط الموقف الأخلاقي لـ"إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، بل تعمّق أيضاً العزلة السياسية وتمنح المقاومة الفلسطينية مزيداً من الزخم والدعم الشعبي والإقليمي، على الصعيد الداخلي، فإن الحرب دون نتائج ملموسة ومع استمرار الخسائر البشرية في صفوف الجنود – كما أشار بريك – تطرح أسئلة حادة داخل المجتمع الإسرائيلي حول الأهداف الحقيقية لهذه الحرب، كما أن الإصرار على استمرار العمليات تحت شعارات فارغة يُظهر قادة "إسرائيل" وكأنهم يخوضون حرباً من أجل البقاء السياسي، لا من أجل "أمن الدولة"، وبالتالي، فإن التكلفة ليست فقط مادية أو عسكرية، بل تمتد إلى شرعية الدولة نفسها، وإلى شرخ متزايد بين السلطة والمجتمع، أمام هذا الواقع، تبدو الحرب وكأنها تدخل في نفق مسدود، بلا أفق سياسي أو ميداني واضح.
الانكشاف الاستراتيجي وتحديات الجبهة الداخلية
تصريحات الجنرال بريك تكشف بوضوح الانكشاف الاستراتيجي لـ"إسرائيل" على عدة مستويات، أبرزها هشاشة الجبهة الداخلية وتراجع القدرة على تحمّل الحروب الطويلة، حين يقول بريك إن "إسرائيل لن تملك قريبًا القدرة الاقتصادية لخوض حرب"، فهو لا يبالغ، بل يشير إلى حقيقة تضغط بقوة على الكيان الصهيوني التكلفة المتزايدة ماديًا وبشريًا ونفسيًا على المجتمع الإسرائيلي، فقد شهدت الأشهر الأخيرة تصاعدًا في الاستقطاب الاجتماعي، وازدياد النقد للقيادة السياسية، وتراجع ثقة الجمهور في قدرة المؤسسة العسكرية على حماية الجبهة الداخلية.
الهجمات الصاروخية من غزة لم تُمنَع تمامًا رغم الإمكانات التقنية، والاقتصاد يعاني من تباطؤ ملحوظ بسبب حالة عدم الاستقرار، كما أن طول أمد الحرب دون تحقيق نتائج ملموسة أدى إلى إرهاق الجمهور، وولّد إحساسًا عامًا بعدم جدوى التصعيد.
يضاف إلى ذلك أزمة التعبئة العسكرية؛ فحسب بريك، الجيش على وشك تسريح الاحتياط ومنح الجنود فترات راحة، في مؤشر على الإجهاد العملياتي، هذا الوضع يهدد قدرة "إسرائيل" على خوض مواجهات متزامنة، ويكشف عن ضعف هيكلي في استراتيجيتها الدفاعية التي كانت تقوم على الحسم السريع ومنع استنزاف الموارد، كل ذلك يجعل من استمرار الحرب مقامرة غير مضمونة العواقب، ويطرح أسئلة حول قدرة "إسرائيل" على الصمود في صراعات مستقبلية أشد تعقيدًا.
الانهيار الأخلاقي في القيادة السياسية والعسكرية
أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق في حديث الجنرال بريك هو اتهامه الصريح للقيادة السياسية والعسكرية بـ"الكذب" والسعي فقط وراء "بقاء شخصي وسياسي"، على حساب الشعب والدولة، هذا الطرح يُعبّر عن أزمة أخلاقية عميقة في البنية الحاكمة، ويكشف عن تآكل في منظومة القيم التي يُفترض أن تقوم عليها دولة ديمقراطية تُعلن التزامها بالشفافية والمساءلة.
حين تصبح الأكاذيب أداة لتسويق الحروب، وحين يتمّ تزييف صورة الواقع لإقناع الجمهور بأن النصر قريب، فإن ذلك لا يشكل فقط فشلًا استراتيجيًا، بل انهيارًا أخلاقيًا يهدد شرعية الحكم، يُلمّح بريك إلى أن القيادة تدفع بالمجتمع نحو "انتحار جماعي"، وهي عبارة ذات دلالات خطيرة تعكس فشلًا في تحقيق التوازن بين الأمن والمصلحة العامة، فبدل أن يكون الجيش أداة للدفاع، أصبح وسيلة لترسيخ سلطة سياسية تبحث عن النجاة وسط أزمات داخلية متراكمة، من الفساد إلى الانقسامات الحزبية.
كما أن الاستمرار في الحرب رغم الخسائر يعكس غياب رؤية واضحة للخروج من المأزق، إن ما تطرحه هذه التصريحات ليس فقط نقدًا للإدارة الفاشلة للحرب، بل إنذارًا من تداعي المشروع الصهيوني نفسه إذا استمر على هذا النحو من الإنكار والتضليل، وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام النخب الإسرائيلية: هل ستعيد تقييم المسار أم تسير نحو انهيار ذاتي؟
في النهاية، في ضوء ما كشفه الجنرال إسحاق بريك، تتضح ملامح أزمة إسرائيلية شاملة تتجاوز ميدان المعركة في غزة لتطال بنية النظام نفسه، الفشل العسكري، والتراجع الاستراتيجي، والانهيار الأخلاقي، والضغوط الاقتصادية، جميعها تشكّل دوائر أزمة متداخلة تهدد مستقبل الدولة العبرية، لم تعد الحرب مسألة تكتيكية قابلة للحسم، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس التناقضات العميقة في المجتمع الإسرائيلي وأوهام تفوقه العسكري.
تصريحات بريك ليست مجرد تحذير من الداخل، بل تمثل لحظة مواجهة مع الذات تتطلب مراجعة جذرية، فإما أن تتحول هذه الصدمة إلى فرصة لإعادة البناء والتفكير الاستراتيجي، أو تصبح نقطة انطلاق لمسار انحداري يصعب تداركه، وفي كلتا الحالتين، فإن تداعيات الحرب على غزة لن تقتصر على حدود الجغرافيا الفلسطينية، بل قد تعيد رسم خرائط النفوذ والقوة في المنطقة بأسرها، لقد آن لـ"إسرائيل" أن تعترف بأن زمن الحسم العسكري الأُحادي قد ولّى، وأن لغة الردع وحدها لم تعد كافية لبناء أمن مستدام.