الوقت- بعد أشهر من الحرب الوحشية على غزة، ومع فشل الاحتلال الإسرائيلي في كسر شوكة المقاومة أو تحقيق نصر استراتيجي يُترجم عسكريًا أو سياسيًا، لجأت القيادة الإسرائيلية إلى تكتيك أكثر خبثًا وخطورة: تفتيت البنية الاجتماعية الفلسطينية من الداخل، وتفجير المجتمع الغزي عبر تسليح عشائر وعصابات مناوئة لحماس.
هذه الاستراتيجية التي باتت تُعرف باسم "الفوضى المُدارة" ليست وليدة اللحظة، بل حلقة ضمن مشروع صهيوني أوسع لإعادة تشكيل غزة بما يخدم مخططات تل أبيب الأمنية والاستيطانية، وخاصة بعد الإخفاقات المدوية في مواجهة المقاومة المسلحة، في قلب هذه الخطة يظهر اسم "فيكتوف"، عرّاب الكواليس الأمنية والمفاوضات الخفية، الذي يشكل رأس حربة في إدارة هذه الحرب المركبة ضد المجتمع الفلسطيني.
فشل الحرب العسكرية والتحوّل نحو تفجير الداخل
منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، اعتمدت "إسرائيل" سياسة الأرض المحروقة في غزة، عبر القصف الشامل والتجويع والتهجير، إلا أن المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، لم تُهزم ولم تُستأصل كما وعدت الحكومة الإسرائيلية، بل إن العمليات ضد الاحتلال لم تتوقف، وأظهرت قدرة ميدانية على إعادة التموضع والمباغتة، هذا الفشل الاستراتيجي دفع بصناع القرار الإسرائيلي، وفي مقدمتهم بنيامين نتنياهو، إلى التفكير بتكتيكات غير تقليدية: ضرب النسيج الاجتماعي من الداخل، وزرع الشقاق بين العائلات والعشائر، وإذكاء صراعات داخلية تعيق أي مشروع مقاومة مستقبلي.
"فيكتوف" والكمين السياسي – الأمني في محادثاته
في هذا السياق، يلعب رونين فيكتوف (اسم مستعار لأحد أبرز المهندسين الأمنيين في الحكومة الإسرائيلية) دورًا محوريًا في صناعة هذا التحول، تشير تقارير استخباراتية إلى أن فيكتوف يدير قنوات خلفية مع شخصيات فلسطينية قبلية وعشائرية، محاولًا تحييدها أو استمالتها ضد حماس، تحت وعود بالأمن، والغذاء، وربما النفوذ بعد انتهاء الحرب، بل أكثر من ذلك، فمحادثاته تشكل كمينًا سياسيًا كامل الأركان: يُظهر إسرائيل كطرف "منفتح على السلام الأهلي"، بينما يزرع بذور الحرب الأهلية بصمت.
تسليح العشائر – دليل المشروع الجديد لتل أبيب
أقرّ نتنياهو علنًا بتسليح مجموعات عشائرية في جنوب غزة، قائلاً إنه يسلّح من يعارضون حماس لـ"إنقاذ أرواح الجنود الإسرائيليين"، وأوضح أن هذه الجماعات تتلقى الأسلحة بتفويض مباشر منه، اللافت أن "إسرائيل" لم تُخفِ الأمر، بل تحاول تسويقه كخطة استراتيجية، ولكن خلف هذا الإعلان يكمن مشروع خطير: تسليح مليشيات قبلية لتكون أداة تخريب داخلي، وتعطيل أي قدرة للمدنيين على تنظيم أنفسهم مجددًا تحت راية موحدة، أو حتى استقبال المساعدات الإنسانية بأمان.
"القوات الشعبية" بقيادة ياسر أبو شباب – واجهة لمخطط أشمل
تدّعي مجموعة تُعرف باسم "القوات الشعبية"، بقيادة ياسر أبو شباب، أنها تُمثل "المنقذين" من هيمنة حماس، بينما تؤكد تقارير دولية أنها مجرد واجهة لميليشيا قبلية مسلحة مولتها "إسرائيل" ودرّبتها لإثارة الفوضى، والسيطرة على نقاط توزيع المساعدات، هذه المجموعة متهمة بارتكاب انتهاكات مباشرة بحق المدنيين: إطلاق نار، نهب مساعدات، وعرقلة الإغاثة، وكل ذلك تحت غطاء "النظام الأهلي" الكاذب.
الدور الأمريكي – مؤسسة "غزة الإنسانية" كمشروع وهمي للتجويع والفوضى
في قلب هذا المشروع يقف الذراع الأمريكي الإسرائيلي المزدوج، عبر مؤسسة تُدعى "غزة الإنسانية" أُنشئت لتوزيع المساعدات، لكنها في الواقع أداة لإعادة ترتيب السلطة المدنية بعيدًا عن حماس، عبر استغلال الجوع كوسيلة ابتزاز سياسي، المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وصف هذه المؤسسة بأنها تستخدم الغذاء كسلاح، وتنتهك كرامة الفلسطينيين بتحويل المساعدات إلى أداة إذلال سياسي.
المنظمات الحقوقية تُحذّر من "الفوضى المسلحة"
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ومنظمات أممية أخرى، حذّرت من خطورة هذا المنحى الجديد، وأكدت أن تسليح العصابات والعشائر هو جريمة جديدة تُضاف إلى سجل التجويع الممنهج، وأن هذا يُنذر بانهيار شامل للمجتمع المدني في غزة، حسب هذه التقارير، فإن "إسرائيل لا تكتفي بتجويع سكان غزة، بل تصنع فوضى هدفها تدمير البنية الاجتماعية بالكامل".
لماذا تلجأ "إسرائيل" لهذا التكتيك الآن؟
أولًا، لأن كل خياراتها العسكرية استُنفدت، ولم تُحقق نتائج حاسمة. ثانيًا، لأنها تعتقد أن الفوضى الداخلية تُضعف الجبهة الشعبية لحماس والمقاومة، ثالثًا، لأن المجتمع الدولي بدأ يُدينها بشدة على المجازر والإبادة، فوجدت في "الانقسام الداخلي" أداة جديدة تُعفيها من تكلفة الاحتلال المباشر، وتُبقي غزة مشتعلة بالصراعات من دون الحاجة إلى وجود عسكري دائم، إنّه النموذج الذي استخدمته واشنطن في العراق ولبنان سابقًا، وتُعيد تل أبيب توظيفه.
نحو مرحلة أشد ظلاماً إن لم يُكسر الحصار
إن ما تفعله حكومة الاحتلال الاسرائيلي اليوم في غزة يتجاوز الحرب التقليدية، ويتجاوز حتى الاحتلال، إنها مرحلة جديدة من إدارة التفكك الذاتي للشعب الفلسطيني، عبر أدوات التجويع، وتسليح الميليشيات، وخلق مناطق نفوذ داخلية متنازعة، ومع دخول هذا المشروع مرحلة التطبيق، بات من الضروري أن يتحرك المجتمع الدولي، لا فقط لإدانة "إسرائيل"، بل لنزع سلاح هذه العصابات، وإعادة تأمين توزيع المساعدات تحت رقابة دولية صارمة، فالمعركة لم تعد فقط بين المقاومة والاحتلال، بل أصبحت بين مشروع حياة ومخطط إفناء اجتماعي ممنهج.