الوقت- في خضم موجة التحركات الدبلوماسية الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، خرجت الحكومة الإسرائيلية ممثلة بأقطابها اليمينية المتطرفة بتصريحات صاخبة تنذر بضم الضفة الغربية، رداً على ما اعتبرته "اعترافاً أحادي الجانب" بفلسطين، هذا التلويح لا يأتي من فراغ، بل يعكس تصعيداً استراتيجياً متعمّداً من قبل حكومة نتنياهو، التي باتت ترى في كل تحرك دولي نحو إحقاق الحق الفلسطيني تهديداً وجودياً لمشروعها الاستيطاني.
فما دوافع هذا التصعيد؟ وما أبعاده القانونية والسياسية؟ وهل نحن أمام تهديدات عابرة، أم أمام تحول جذري في الخطاب الإسرائيلي قد يقود إلى خطوات عملية على الأرض؟
تهديدات نتنياهو: ضم الضفة كردّ على الاعتراف بفلسطين
خلال الأسابيع الأخيرة، أبدت عدة دول أوروبية من بينها إسبانيا وأيرلندا والنرويج استعدادها للاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، في خطوة رمزية ذات وزن سياسي وأخلاقي في وجه الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، ورداً على ذلك، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن "أي اعتراف بدولة فلسطينية سيقابل بخطوات إسرائيلية من بينها بسط السيادة على الضفة الغربية."
هذا التهديد ليس مجرد تصريح إعلامي، بل يأتي في سياق تطورات ميدانية مقلقة، من تصعيد عمليات الاستيطان، إلى محاولات تهويد متزايدة في القدس، وصولاً إلى تشريعات تُطرح داخل الكنيست لفرض القانون الإسرائيلي على مناطق "ج"، والتي تمثل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية.
الاعتراف بفلسطين: ما الذي تخشاه "إسرائيل"؟
من وجهة نظر القانون الدولي، يُعد الاعتراف بدولة فلسطين خطوة نحو تصحيح اختلال تاريخي طال أمده، لكن بالنسبة لـ"إسرائيل"، فإن هذا الاعتراف يحمل تداعيات استراتيجية، أولاً، هو يضع الأسس القانونية لمحاكمة "إسرائيل" على جرائم الحرب في الضفة وغزة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وثانياً، هو يحرج الدول الغربية المتحالفة مع تل أبيب، ويضعها أمام تناقض بين خطابها الليبرالي ودعمها لحكومة استعمارية.
التهديد الإسرائيلي إذاً هو محاولة استباقية لإفشال الاعتراف قبل أن يتحول إلى تيار دولي واسع، وهو أيضاً رسالة ترهيب موجّهة إلى الدول المترددة، مضمونها: "أي دعم للفلسطينيين سيكلفكم تمزيق حل الدولتين."
تهديد سياسي مكشوف ومخالف لكل الأعراف
تلويح "إسرائيل" بضم الضفة الغربية كرد على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس إلا تهديداً سياسياً فاضحاً ومخالفاً لأبسط مبادئ القانون الدولي، فبدل أن تُحاسب على عقود من الاحتلال والاستيطان، تقلب "إسرائيل" المعادلة، مهددة بعقاب جماعي لشعب يعيش تحت الاحتلال لمجرد أن بعض الدول قررت الاعتراف بحقه في تقرير المصير، هذا المنطق الاستعلائي يكشف عن جوهر المشروع الصهيوني: لا سلام، ولا دولة فلسطينية، بل استمرار للهيمنة بالقوة وتطويع الإرادة الدولية عبر التخويف، والأخطر من ذلك أن صمت المجتمع الدولي حيال هذا الخطاب يضفي شرعية ضمنية على ما هو في جوهره سياسة استعمارية عنصرية.
هل تملك "إسرائيل" القدرة على ضم الضفة فعلياً؟
من الناحية العسكرية والإدارية، فإن "إسرائيل" تسيطر فعلياً على الضفة الغربية، سواء عبر الحواجز الأمنية، أو المستوطنات التي تتزايد بوتيرة غير مسبوقة، أو عبر نظام تصاريح ومعابر يتحكم بكل مفصل من مفاصل الحياة الفلسطينية.
لكن من الناحية القانونية، فإن أي خطوة رسمية نحو الضم ستعني أن "إسرائيل" قد نسفت كل الاتفاقيات الموقعة مع الفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو، وستضع نفسها في خانة الدول المنتهكة للقانون الدولي بشكل سافر.
ولذلك، فإن التهديد بالضم ليس مجرد تهويل، بل يعكس ميلاً متزايداً في السياسة الإسرائيلية نحو إنهاء أي إمكانية لتسوية سياسية، واستبدالها بفرض واقع استعماري جديد باسم "السيادة".
التوقيت والسياق: لماذا الآن؟
التهديدات الإسرائيلية لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع، "إسرائيل" تواجه اليوم ضغوطاً غير مسبوقة على عدة جبهات:
- الداخل الإسرائيلي يعيش على وقع انقسامات سياسية ومجتمعية حادة، واتهامات الفساد تلاحق نتنياهو.
- الساحة الدولية بدأت تشهد تحولاً في المواقف التقليدية، مع تصاعد الدعوات لمحاسبة "إسرائيل" على جرائم الحرب في غزة، التي أودت بحياة عشرات الآلاف منذ أكتوبر 2023.
أمام هذا المشهد، يرى نتنياهو أن التصعيد قد يكون وسيلته الوحيدة لإعادة ضبط المعادلات، داخلياً وخارجياً.
ما الموقف العربي والدولي؟
للأسف، الموقف العربي لا يزال في حالة تراجع حاد، حيث انشغلت الدول العربية بصراعاتها الداخلية، أو ارتهنت لتحالفات دولية تملي عليها الصمت حيال العدوان الإسرائيلي.
أما المجتمع الدولي، فيبدو أنه بدأ يستفيق متأخراً، الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية تحمل طابعاً رمزياً مهماً، لكنها تبقى دون أدوات ردع حقيقية، وإذا لم تتبع هذه الخطوات بإجراءات سياسية واقتصادية ضد "إسرائيل" مثل فرض العقوبات أو تجميد اتفاقيات الشراكة فإن تل أبيب ستفسر هذا الاعتراف كتحرك استعراضي لا أكثر.
في النهاية، ما يحدث اليوم يتجاوز حدود التصريحات السياسية المعتادة؛ إنه لحظة حاسمة تكشف مدى جدية المجتمع الدولي في التزامه بما يُسمى "حل الدولتين"، فالعالم الآن أمام مفترق طرق: إما أن يتخذ موقفاً حازماً ضد سياسات الضم والاحتلال، أو أن يثبت عجزه النهائي، ويترك الضفة الغربية تُلحق بمصير القدس والجولان، كأراضٍ محتلة فُرض عليها الأمر الواقع بقوة السلاح والصمت الدولي.
الرد الفلسطيني يجب أن يكون بمستوى التهديد، لا يكفي انتظار ما تفعله أوروبا، بل ينبغي تحريك الساحة القانونية والسياسية والحقوقية في كل المحافل الدولية، مع إطلاق حملة ضغط واسعة على الدول التي لا تزال تمنح الغطاء لـ"إسرائيل"، سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً.
أما بالنسبة لـ"إسرائيل"، فإن خيار الضم إذا ما تحقق سيحولها رسمياً من دولة تدعي "الديمقراطية" إلى نظام فصل عنصري مكتمل الأركان، وستكون قد أعلنت موت حل الدولتين بشكل نهائي.