الوقت- تشهد الساحة السياسية والأمنية في "إسرائيل" واحدة من أشد الأزمات القانونية والسياسية في السنوات الأخيرة، وذلك على خلفية إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن تعيين ديفيد زيني رئيساً جديداً لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "شاباك"، على الرغم من معارضة المدعي العام وقرار المحكمة العليا الذي قضى بعدم قانونية هذه الخطوة.
هذه الأزمة تكشف مجدداً عمق الانقسامات بين السلطات الثلاث في "إسرائيل": التنفيذية، القضائية، والأمنية، في ظل استمرار التوترات السياسية الداخلية والحرب الدائرة في قطاع غزة.
من هو ديفيد زيني ولماذا يثير تعيينه الجدل؟
أعلن نتنياهو في الـ 23 من مايو 2025 عن قراره بتعيين الجنرال المتقاعد ديفيد زيني رئيساً لجهاز شاباك ابتداءً من شهر يونيو المقبل، خلفاً لرونن بار، الذي سبق أن أعلن عن استقالته المرتقبة في الـ 15 من يونيو، عقب فشله في إحباط هجوم حماس في الـ 7 من أكتوبر 2023.
ما يثير الجدل في هذا التعيين، أن زيني لم يسبق له أن خدم في شاباك، كما أن علاقاته العائلية والسياسية وثيقة الصلة بحلفاء نتنياهو، وهو ما فسره منتقدو القرار بأنه يأتي في إطار محاولات رئيس الوزراء تعزيز نفوذه الشخصي داخل مؤسسات الدولة الأمنية.
المدعي العام يعلن معارضة صريحة: "تعيين غير قانوني"
لم يمر القرار مرور الكرام، إذ سارعت المستشارة القانونية للحكومة والمدعي العام الإسرائيلي، غالي باهاراف-ميارا، إلى إصدار بيان تؤكد فيه أن نتنياهو لا يملك قانونياً صلاحية إقالة رئيس جهاز شاباك أو تعيين بديل له في ظل تعارض المصالح الناتج عن ملفات الفساد التي يخضع للتحقيق بشأنها.
وأوضحت باهاراف-ميارا أن القرار الأحادي الصادر عن نتنياهو "غير قانوني من حيث الشكل والمضمون"، لأنه تم دون الرجوع إلى اللجنة المختصة أو الحصول على رأي المستشار القانوني للحكومة، معتبرة أن رئيس الوزراء تجاوز صلاحياته بشكل واضح.
تدخل المحكمة العليا: تعليق القرار حتى إشعار آخر
وفي تطور قضائي سريع، أعلنت المحكمة العليا في إسرائيل وقف تنفيذ قرار تعيين ديفيد زيني مؤقتاً، إلى حين البت في الطعون المقدمة من عدة جهات قانونية وحقوقية اعتبرت التعيين بمثابة خرق خطير لمبدأ الفصل بين السلطات وتعدٍ على صلاحيات الجهات القضائية.
واعتبرت المحكمة أن تعيين زيني لا يمكن أن يدخل حيز التنفيذ في ظل استمرار رئيس شاباك الحالي في منصبه، وفي ظل غياب أي مبررات أمنية أو قانونية لعزله قبل انتهاء ولايته.
السياق السياسي: نتنياهو ومراكز القوى المتعددة
تأتي هذه الخطوة في ظل سعي نتنياهو المستمر للسيطرة على مراكز النفوذ داخل الدولة، وخصوصاً بعد سلسلة من التوترات مع جهاز القضاء الإسرائيلي، الذي سبق أن اتهمه بمحاولة إضعاف استقلال القضاء من خلال تمرير تعديلات قانونية تهدف إلى الحد من سلطات المحكمة العليا.
ويرى مراقبون أن محاولة نتنياهو تعيين زيني تأتي أيضاً في سياق تحصين نفسه سياسياً، إذ إن جهاز شاباك يلعب دوراً مركزياً في قضايا الأمن الداخلي، ومن غير المستبعد أن يكون للتعيين تأثير على سير التحقيقات الجارية في ملفات فساد تورط فيها رئيس الوزراء.
ردود الفعل السياسية: انقسام داخلي وقلق دولي
لاقى القرار ردود فعل متباينة داخل الحكومة الإسرائيلية وخارجها، ففي حين دعم بعض أعضاء الائتلاف الحكومي القرار، معتبرين أنه يدخل ضمن صلاحيات رئيس الوزراء، أعربت المعارضة عن قلقها من "تسييس أجهزة الأمن".
زعيم المعارضة، يائير لابيد، وصف القرار بأنه "ضربة جديدة لمبدأ سيادة القانون"، مؤكداً أن نتنياهو يهدد بفعلته هذه البنية الديمقراطية لـ"إسرائيل".
أما على الصعيد الدولي، فقد نقلت تقارير عن مسؤولين غربيين قلقهم من أن تؤثر هذه الأزمة الداخلية على فعالية التعاون الأمني والاستخباراتي مع "إسرائيل"، وخاصة في ظل تصاعد التوتر في غزة والضفة الغربية.
أبعاد قانونية ودستورية: هل يدخل النظام الإسرائيلي في أزمة بنيوية؟
يرى خبراء القانون الدستوري في "إسرائيل" أن هذه الأزمة تمثل اختباراً حقيقياً لمرونة النظام السياسي والقانوني الإسرائيلي، وخصوصاً أن المحكمة العليا قد تواجه قريباً معضلة اتخاذ قرار يلزم الحكومة بإلغاء التعيين، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد غير مسبوق بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
كما أن تجاهل رئيس الوزراء لملاحظات المدعي العام قد يفتح الباب أمام مساءلات قانونية جديدة، وربما مطالبات باستقالته، إذا ما ثبت أنه تجاوز صلاحياته الدستورية عن قصد.
سيناريوهات المستقبل: إلى أين تتجه الأزمة؟
في ظل تمسك كل طرف بموقفه، تبدو الأزمة مرشحة للتصعيد، إذا قررت المحكمة العليا إلغاء التعيين نهائياً، قد يرفض نتنياهو الانصياع، ما يفتح الباب أمام مواجهة دستورية علنية، أما إذا رضخ لحكم المحكمة، فستكون تلك ضربة سياسية كبيرة له قد تضعف موقفه داخل الائتلاف الحاكم.
وفي كل الأحوال، فإن هذه الأزمة تسلط الضوء مجدداً على الحاجة لإصلاحات قانونية ودستورية في "إسرائيل"، وخصوصاً فيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات بين السلطات المختلفة.
في النهاية يمكن القول إن الخلاف حول تعيين رئيس شاباك الجديد يعكس عمق التوترات السياسية والقانونية في "إسرائيل"، ويؤكد أن مؤسسات الدولة، بما فيها الأجهزة الأمنية، ليست بمنأى عن الاستقطابات السياسية المتزايدة.
لكن ما يجعل هذه الأزمة أكثر خطورة هو تزامنها مع الوضع الأمني المتفجر في غزة، حيث من شأن عدم الاستقرار داخل أجهزة الأمن الإسرائيلية أن يؤثر سلباً على إدارة العمليات العسكرية والمواقف التفاوضية مع الوسطاء الإقليميين والدوليين.
إن تفجّر الخلاف بين القيادة السياسية والأمنية في كيان الاحتلال، كما ظهر في أزمة تعيين رئيس جديد لجهاز الشاباك، يكشف حجم التصدع الداخلي الذي تعيشه المؤسسات الصهيونية في ذروة المواجهة مع الشعب الفلسطيني، ولا سيما في قطاع غزة، هذا الاضطراب يمنح المقاومة الفلسطينية فرصة ثمينة لإعادة التموضع الميداني والسياسي، مستفيدة من حالة الإرباك والشلل في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وإذا استمر هذا الانقسام دون حسم، فلن يقتصر أثره على الداخل الإسرائيلي، بل سيمتد ليغيّر موازين القوى على الأرض، ويضعف قدرة الاحتلال على فرض إرادته في معادلة الصراع، سواء في غزة أو في المنطقة بأسرها.