الوقت- تعيش غزة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها الحديث، في ظل حرب مستعرة، تعالت التحذيرات الدولية من عسكرة المساعدات وتحويلها إلى أدوات للضغط السياسي، ومع استمرار الحصار الإسرائيلي، أُغلقت جميع المخابز، وانعدمت سلع أساسية كالطحين والوقود، ما يُهدد حياة أكثر من مليوني فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وتزداد الخطورة مع محاولات بعض الأطراف التحكم في آلية توزيع المساعدات الإنسانية، بما يعمّق معاناة المدنيين ويثير الشكوك حول النوايا السياسية من وراء تلك التحركات.
توقف المخابز وخطر عسكرة المساعدات
منذ بداية أبريل 2025، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عن توقف جميع المخابز المدعومة من برنامج الأغذية العالمي في غزة، نتيجة نفاد الطحين والوقود، وقال المتحدث باسم البرنامج إن أكثر من 2.2 مليون شخص أصبحوا في مواجهة خطر الجوع الحاد، بينما يعاني مئات الآلاف من الأطفال من سوء تغذية حادة.
وأشارت صحيفة واشنطن بوست إلى أن "إسرائيل" وضعت خطة للسيطرة على جميع المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع، وذلك من خلال استخدام شركات أمنية خاصة للإشراف على التوزيع، وهو ما اعتبرته منظمات إنسانية مثل "ترایل إنترنشنال" محاولة واضحة لتحويل المعونة إلى سلاح سياسي.
وأكد عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي للأونروا، أن كمية المساعدات الحالية تشبه "إبرة في كومة قش" مقارنة بالحاجة الحقيقية، مشيرًا إلى أن هناك خطرًا جديًا في انهيار كامل للمنظومة الإنسانية في القطاع إذا لم يتم تغيير الآليات الحالية فورًا.
أبعاد سياسية وإنسانية وقانونية
سياسات الاحتلال الإسرائيلي بشأن المساعدات لا تنفصل عن السياق السياسي الأوسع، فهي وفقاً لمراقبين تهدف إلى خلق ضغط اجتماعي وإنساني على السكان لدفعهم نحو النزوح القسري أو ما يمكن تسميته بـ"الترانسفير الناعم".
تحذر منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" من خطورة عسكرة المساعدات، إذ إن استخدام شركات أمنية في عملية التوزيع ينتهك المبادئ الأساسية للعمل الإنساني التي تقوم على الحياد والاستقلال، كما يفتح ذلك الباب أمام انتهاكات جسيمة قد تُصنف في إطار جرائم حرب، وخاصة في حال استخدام القوة أو الحرمان الجماعي من الإغاثة.
كما يُعد استخدام الاحتلال الإسرائيلي لتقنيات المراقبة مثل التعرف على الوجه ضمن شروط الحصول على المساعدات تجاوزاً خطيراً للخصوصية وخرقًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، وتحديدًا لاتفاقيات جنيف الرابعة التي تُلزم سلطات الاحتلال بضمان تدفق المساعدات دون عوائق.
من جانب آخر، تؤكد تقارير حقوقية أن أكثر من 80% من سكان غزة اضطروا للنزوح الداخلي منذ أكتوبر 2023، وأن ظروف المعيشة في المخيمات الجديدة تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات الأساسية مثل المياه، الكهرباء، والرعاية الصحية.
الجوع واقع يومي
أفادت منظمات ميدانية منها "أطباء بلا حدود" و"الهلال الأحمر الفلسطيني" بأن مئات الآلاف من العائلات باتت غير قادرة على إعداد وجبة واحدة يوميًا، الطوابير أمام نقاط توزيع المساعدات المؤقتة أصبحت مشهدًا يوميًا، فيما بات الوقود يستخدم فقط للمرافق الصحية أو توزيع المياه.
تقول أم نضال، وهي أم لخمسة أطفال من مخيم النصيرات:
"لم يعد لدينا خبز منذ أيام. نحاول غلي الأعشاب البرية، ونقايض ما تبقى لدينا من أرز للحصول على فتات طحين، لم أكن أعتقد أني سأعيش لأشهد أطفالي يتضورون جوعاً أمام عيني".
شهادات كهذه أصبحت شائعة، بينما تسود حالة من القلق إزاء تفشي الأمراض نتيجة تلوث المياه وسوء التغذية، وخاصة بين الأطفال.
الموقف الدولي: شجب دون فعل
رغم تصاعد التحذيرات من الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية، إلا أن ردود الفعل الرسمية من معظم الدول الغربية لم تتعدّ بيانات التنديد، الولايات المتحدة تواصل دعمها السياسي والعسكري لـ"إسرائيل"، فيما تبقى الدعوات لوقف إطلاق النار أو تسهيل المساعدات ضمن دائرة الخطاب السياسي دون خطوات عملية.
وعلى النقيض، شهدت عواصم أوروبية وعربية عدة مظاهرات تطالب بوقف الحرب ورفع الحصار، في برلين وباريس، رفع المتظاهرون لافتات تقول "الخبز حق لا امتياز"، فيما خرج آلاف الفلسطينيين في رام الله والقدس المحتلة احتجاجًا على تجويع أهل غزة.
نحو تهجير قسري أم استجابة إنسانية؟
تشير العديد من التحليلات إلى أن استمرار هذا النهج في توزيع المساعدات، أو منعها، يندرج ضمن سياسة أوسع تهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه، وقد عبر عن ذلك المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني حين قال:
"إذا استمرت الظروف الحالية دون تدخل دولي جاد، فسنشهد واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، مع خطر تهجير جماعي حقيقي".
أما على الأرض، فإن المؤشرات تدفع نحو سيناريو تفاقم المجاعة في مناطق واسعة من شمال ووسط غزة، مع انعدام شبه تام للمساعدات، وتعثر وصول الوقود حتى للمستشفيات.
في النهاية، يظهر أن أزمة المساعدات في غزة لم تعد مجرد مسألة لوجستية أو إنسانية، بل تحولت إلى أداة في صراع جيوسياسي معقد، تُستخدم فيه المعونة كورقة ضغط ومعاقبة جماعية.
إن مسؤولية المجتمع الدولي لم تعد تقتصر على تقديم المساعدات فحسب، بل عليه التحرك الفوري لضمان عدم عسكرة المساعدات، وتفكيك القيود الإدارية التي تُستخدم كأدوات ابتزاز، كذلك يجب محاسبة أي طرف يحوّل الغذاء والدواء إلى وسيلة حرب، وهو ما يتنافى مع كل القيم الإنسانية والقانونية.
لقد آن الأوان لتحييد العمل الإنساني عن الحسابات العسكرية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح المدنيين العُزّل في غزة.