الوقت - تخوض غزة منذ ما يزيد على 19 شهرًا واحدة من أكثر الحروب وحشية في العصر الحديث، لم يعد بإمكان أحد أن يُسمي ما يحدث هناك "نزاعًا" أو "عملية عسكرية"، إنها إبادة بكل معنى الكلمة.
ومع تواصل القصف والتجويع والتهجير، بدأت أوراق التواطؤ الدولي تتساقط واحدة تلو الأخرى، لكن الحدث الأبرز في هذا السياق كان انكشاف الغطاء الأوروبي، تدريجيًا، عن "إسرائيل"، الحليف التاريخي والرمز المُدجّن لمشروع الاستعمار الحديث في الشرق الأوسط.
هذا التحول لم يكن مجرد موقف دبلوماسي عابر، بل علامة على تصدع في بنية الخطاب الغربي، وخاصة الأوروبي، الذي طالما غلّف دعمه لـ"إسرائيل" بشعارات الحضارة والحداثة والديمقراطية.
من عقدة الذنب إلى التحالف الاستراتيجي
لسنوات طويلة، برّرت أوروبا دعمها غير المشروط لـ"إسرائيل" باعتباره نوعًا من التكفير الأخلاقي عن جرائم النازية، نُظر إلى "إسرائيل" كـ"ضحية نموذجية"، وكحصن ديمقراطي في منطقة مضطربة، لكن كل هذا غطّى حقيقة أن هذا "الضحية" نفسها كانت تنفّذ سياسة استعمارية توسعية تُقصي الفلسطينيين وتُمعن في قمعهم تحت غطاء الدعم الغربي.
مع كل مجزرة كانت أوروبا تكتفي ببيانات التهدئة، متجاهلة الحقائق على الأرض: الاستيطان، الحصار، القتل الممنهج، إلا أن المشاهد القادمة من غزة "من قصف المستشفيات إلى دفن الأطفال تحت الأنقاض" لم تترك مجالًا للسكوت، حتى لأكثر الحكومات تواطؤًا.
الشارع الأوروبي يضغط: المظاهرات، الجامعات، والنقابات
الأجيال الشابة في أوروبا اليوم تختلف جذريًا عن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، لقد كبر هؤلاء وهم يشاهدون فلسطين تُذبح، ويقرؤون رواية فلسطينية بلغة حقوق الإنسان، وينشطون في ساحات جامعاتهم وحركات المقاطعة، الجامعات باتت معاقل للضغط السياسي، والنقابات تنخرط في حملات لوقف التعاون مع "إسرائيل".
المظاهرات في العواصم الأوروبية، من لندن إلى برلين إلى باريس، ليست فقط تعبيرًا عن الغضب، بل حركة اجتماعية مستمرة تُحرج الحكومات، وتدفعها إلى اتخاذ مواقف غير مألوفة.
الانكشاف السياسي: لحظة مدريد كمؤشر تحوّل
الاجتماع الوزاري الأخير في مدريد لم يكن لقاءً دبلوماسيًا عاديًا، بل مشهدًا يُعبّر عن تصدع متزايد داخل المعسكر الأوروبي، إسبانيا، التي تقود هذا التحول، دعت صراحة إلى فرض حظر على تصدير الأسلحة لـ"إسرائيل"، وزراء الخارجية تحدثوا عن "الإبادة" و"الحصار اللا أخلاقي". وهناك تحضير لمؤتمر دولي لحل الدولتين تحت رعاية الأمم المتحدة.
لكن ماذا تعني هذه المؤشرات فعليًا؟ هل هي بداية مرحلة جديدة أم مجرد محاولة لتلميع الصورة؟
رغم كل هذه المواقف، لا تزال أوروبا تحاول الإمساك بالعصا من المنتصف، فهي من جهة تشعر بالقلق من مجازر "إسرائيل"، ومن جهة أخرى تخشى تفكك تحالفها مع الولايات المتحدة، وتخشى انهيار منظومتها السياسية التي استثمرت فيها منذ عقود.
كما أن قوة اليمين الشعبوي في بعض الدول الأوروبية تُضعف القدرة على اتخاذ موقف موحد داخل الاتحاد الأوروبي، المواقف تتفاوت، والقرارات تُعطّلها حسابات محلية وانتخابية، ما يجعل التقدم هشًا وغير مضمون.
هل يستثمر الفلسطينيون هذه اللحظة؟
أمام هذا التحول، السؤال الجوهري هو: كيف نُحوّله إلى مكسب حقيقي للقضية الفلسطينية؟
أولًا، على المستوى الشعبي، على الجاليات الفلسطينية والعربية في أوروبا أن تتنظم وتنسّق جهودها مع القوى المناصرة، الرواية الفلسطينية يجب أن تُقدَّم بلغة تفهمها أوروبا: بلغة حقوق الإنسان، العدالة، القانون الدولي.
ثانيًا، على المستوى الرسمي، يجب على القيادة الفلسطينية أن تستثمر هذه اللحظة للضغط من أجل الاعتراف بدولة فلسطين، وللمطالبة بفرض عقوبات فعلية على "إسرائيل"، لا الاكتفاء بالبيانات، لا يكفي التفاعل مع ما يجري، بل يجب صناعة المبادرة.
ثالثًا، قانونيًا، على الفلسطينيين والمنظمات الحقوقية تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في المحاكم الأوروبية، وهو أمر بات ممكنًا أكثر من أي وقت مضى.
مأزق السلطة الفلسطينية: هل تملك الجرأة؟
المشكلة الأكبر تكمن في السلطة الفلسطينية نفسها، لا يمكن أن تطالب الشعوب الأوروبية بمقاطعة "إسرائيل"، بينما تواصل السلطة التنسيق الأمني والعلاقات مع الاحتلال، لا معنى لدعوة لمحاسبة "إسرائيل" أمام المحاكم الدولية، في الوقت الذي يتم فيه اختزال القضية في خطاب تفاوضي ميت سريريًا.
على السلطة أن تُفعّل قرارات المجلس المركزي، وتقطع العلاقات السياسية والأمنية مع الاحتلال، لا أن تعلّقها مؤقتًا، يجب التعامل مع "إسرائيل" كما هي: نظام فصل عنصري استيطاني إحلالي لا يُمكن التعايش معه.
ما يجري في أوروبا ليس صحوة مؤقتة، بل لحظة نادرة في التاريخ السياسي الغربي، لحظة تفكك الرواية الصهيونية من داخل بيتها الداعم، لحظة يجب أن نُحسن قراءتها واستثمارها.
لن ينتظرنا العالم طويلًا، إما أن نتحرك بثقة، ونُقدم خطابًا وطنيًا موحدًا وجريئًا، أو سنخسر فرصة نادرة لإعادة موقع القضية الفلسطينية إلى قلب الصراع الدولي، فهل نمتلك الشجاعة لنكون جزءًا من التغيير، لا مجرد موضوع له؟