الوقت - في مشهد غير مسبوق في تاريخ الكويت، استيقظ عشرات الآلاف من المواطنين على وقع قرارات مفاجئة بسحب جنسياتهم، لتُسلط الأضواء على حملة رسمية شاملة يقودها أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الصباح، تحت شعار "كويت نظيفة خالية من الشوائب"، حملة تثير جدلاً واسعاً حول أهدافها، ومآلاتها، والأهم من ذلك: أسبابها.
"لمى"، امرأة خمسينية من أصل أردني، وجدت نفسها فجأة بلا جنسية. كانت تمارس حياتها اليومية كمواطنة كويتية منذ أكثر من عقدين، حتى اكتشفت أثناء زيارة روتينية لصالة رياضية أن بطاقتها البنكية قد جُمّدت، وحسابها المصرفي توقف مؤقتاً، السبب؟ إسقاط جنسيتها التي حصلت عليها عبر الزواج، لم تكن لمى وحدها، بل واحدة من بين أكثر من 37 ألف شخص، بينهم 26 ألف امرأة على الأقل، سُحبت جنسياتهم منذ أغسطس/آب الماضي، وفق بيانات رسمية نقلتها وكالة الأنباء الفرنسية.
أسباب السحب: ما وراء الأرقام
لم يكن إسقاط الجنسية مقتصراً على حالات بعينها، بل جاء وفق تصنيف دقيق أعلنته وزارة الداخلية الكويتية في بيان رسمي، تضمن التالي:
حيازة جنسية مزدوجة: شُطبت أسماء 8 أشخاص بسبب حملهم جنسية ثانية، ما يعد مخالفاً للقانون الكويتي.
التزوير في مستندات التجنيس: طالت الإجراءات 262 حالة، شملت أيضاً من حصل على الجنسية بالتبعية.
المساس بولاء الدولة: أُسقطت الجنسية عن أحد الأشخاص لهذا السبب، وهي تهمة فضفاضة لم تُفصّلها الجهات المعنية.
المصلحة العليا للدولة: وُضع 1017 اسماً تحت هذا البند، وهو مصطلح يستخدم عادة لأسباب أمنية أو سياسية، دون تفاصيل معلنة.
ضربات متتالية لـ"المكتسبين": النساء أولاً
أحد أبرز أركان الحملة تمثل في إلغاء التجنيس عبر الزواج، وهو ما أثر بشكل خاص على النساء الأجنبيات اللائي حصلن على الجنسية بعد الزواج بمواطنين كويتيين، بموجب هذه السياسة، تم سحب الجنسية من جميع النساء المُجنّسات عبر الزواج منذ عام 1987، وتُظهر بيانات وزارة الداخلية أن نحو 38,505 امرأة حصلن على الجنسية بهذه الطريقة بين عامي 1993 و2020.
وفي هذا السياق، تقول الباحثة ميليسا لانغورثي، من مركز "إنكلودوفيت"، إن "الرسالة للنساء المُجنّسات واضحة: أنتن لستن المثال الأمثل لمواطِنات هذه الأمة".
فئة "الأعمال الجليلة" تحت المقصلة
الحملة شملت أيضاً مراجعة ملفات التجنيس تحت بند "الأعمال الجليلة"، وهو استثناء يمنح الجنسية لمساهمين بارزين في المجتمع، لكن هذه المراجعة طالت شخصيات معروفة، كالمطربة نوال الكويتية، والممثل داود حسين، بل حتى جراحين بارزين كرياض الطرزي، الذي احتفت به وكالة الأنباء الرسمية سابقاً لإنجازه في زراعة قلب طبيعي.
في حالة الطرزي، بدا المشهد متناقضاً؛ فمن التكريم إلى الإقصاء، ما يطرح تساؤلات حادة حول المعايير المستجدة التي باتت تتحكم في "مَن يستحق أن يكون كويتياً".
منطق "الهوية الوطنية": بين السيادة والسياسة
يرى محللون أن الحملة مرتبطة بإعادة رسم مفهوم "الهوية الكويتية"، إذ تهدف إلى حصر المواطنة لمن "ورثوها أبا عن جد"، كما أوضح الأمير نفسه في خطابه المتلفز في مارس/آذار، حيث وعد بـ"تسليم الكويت لأهلها الأصليين خالية من الشوائب"، وهنا تبرز الإشارة الواضحة إلى استبعاد من لا يحملون "جذوراً كويتية راسخة"، حسب ما صرّح به جورجيو كافييرو، مدير مركز "غلف ستيت أناليتيكس".
من جانبه، يؤكد أستاذ التاريخ بجامعة الكويت، بدر السيف، أن ما يحدث هو "إعادة تعريف للمواطنة"، مشيراً إلى تساؤلات جوهرية حول "من نحن كأمة؟".
حسابات سياسية؟ تقليص الناخبين نموذجاً
وسط هذا الزخم التشريعي والإداري، يرى مراقبون أن تقليص عدد المواطنين قد يكون وسيلة للحد من حجم الكتلة الناخبة، وبالتالي تشكيل قاعدة شعبية أصغر وأكثر قابلية للإدارة السياسية، وخصوصاً في ظل برلمان كويتي عرف بتأثيره، وهو أمر غير معتاد خليجياً.
وقد ألمح الأمير صراحة إلى الأزمة المستمرة بين النواب والحكومة المعينة من الأسرة الحاكمة، والتي أعاقت الإصلاحات، وخصوصاً الاقتصادية، في بلد يعتمد بشكل شبه كلي على النفط.
ما بعد الجنسية: مأزق القانون والمواطنة المعلقة
لا تقف التداعيات عند حدّ الحرمان من الهوية، بل تشمل تجميد الحسابات البنكية، تعليق المعاشات التقاعدية، وحرمان آلاف النساء من حقوقهن السياسية والاجتماعية، وتؤكد منظمة العفو الدولية أن الحق في الجنسية "حق إنساني أساسي"، وأن إنكاره قد "يدمر حياة الناس"، وخصوصاً النساء والبدون.
في الوقت الذي يرى فيه البعض أن ما يحدث هو مراجعة ضرورية لملفات التجنيس، تصفه جهات حقوقية بأنه "تطهير إداري" يقصي فئات واسعة دون محاكمة عادلة أو شفافية، والنتيجة واحدة: عشرات الآلاف من البشر يعيشون اليوم بلا جنسية، في انتظار مصير قانوني مجهول، وبلدٍ يقول لهم إنهم لم يعودوا من "أهله الأصليين".
في ظل غياب خطاب رسمي مفصل يوضح معايير السحب وحدود الطعن فيه، يبقى السؤال الأهم معلقاً: هل تشكّل هذه الإجراءات إعادة تعريف للدولة والمواطنة؟ أم إنها مجرد فصل آخر من فصول إدارة السلطة عبر تقليص الانتماء؟