الوقت - في خطوة مثيرة للجدل داخليًا، ومثقلة بالضغوط خارجيًا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مساء الأحد، السماح بدخول كميات محدودة من المساعدات الغذائية إلى قطاع غزة المحاصر، في قرار فُهم على نطاق واسع بأنه رضوخ لضغوط أمريكية متزايدة، وسط انتقادات حادة من داخل الائتلاف الحاكم.
ويأتي هذا التحول المفاجئ بعد ساعات فقط من إعلان الجيش الإسرائيلي بدء عملية برية موسعة شمال القطاع، ما أثار تساؤلات عميقة حول الدوافع الفعلية لهذا القرار الذي وصفه بعض وزرائه بأنه "تنازل خطير" و"منح حماس الأوكسجين بدل سحقها".
تحول مفاجئ رغم المعارضة: ماذا يجري داخل الحكومة؟
القرار لم يمر بسلاسة داخل الأوساط الحاكمة في إسرائيل. فقد كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أن غالبية الوزراء عارضوا الخطوة، في وقت طالبت فيه شخصيات يمينية متطرفة بعرض المسألة على التصويت داخل المجلس الوزاري المصغر، وهو ما رفضه نتنياهو.
وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، أحد أبرز الأصوات المعارضة، وصف القرار بـ"الخطأ الجسيم"، قائلاً: "يجب أن نسحق حماس لا أن نمنحها الغذاء"، كما اتهم رئيس الوزراء بتجاهل إرادة الوزراء وفرض قرار فردي تحت ضغط خارجي، مشيرًا إلى أن "هذه الخطوة لا تحظى بأي إجماع".
الضغط الأمريكي: اليد الخفية التي غيّرت المعادلة
الضغوط الأمريكية كانت حاسمة في دفع نتنياهو نحو التراجع عن تعهده بعدم السماح بدخول المساعدات إلا بعد إيجاد آلية تحول دون "استفادة حماس منها"، وهو الشرط الذي رددته تل أبيب مرارًا خلال الأشهر الماضية.
وزير الخارجية جدعون ساعر أقرّ صراحة بوجود "تهديدات بعقوبات" في حال لم يُسمح بإدخال الإغاثة، في حين نقلت القناة 12 عن مصادر إسرائيلية أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "كان حازمًا في طلبه"، خلال محادثات مغلقة، بشأن ضرورة إنهاء الحصار الإنساني المفروض على غزة منذ أكثر من شهرين.
يُذكر أن هذا التوتر يأتي في سياق علاقات آخذة في الفتور بين واشنطن وتل أبيب، على خلفية خلافات في ملفات متعددة، أبرزها التعامل مع غزة، والمفاوضات مع إيران، والتفاهمات غير المعلنة مع الحوثيين في اليمن.
مساعدات "مشروطة" وآليات مراقبة أمريكية
في محاولة لاحتواء غضب الداخل الإسرائيلي، أعلن مكتب نتنياهو أن إدخال المساعدات سيكون "مؤقتًا"، وسينتهي خلال أسبوع تقريبًا، مع بدء تشغيل آلية إشراف أمريكية خاصة تُشرف عليها شركة أمنية، من المقرر أن تباشر عملها في 24 مايو.
وحسب الخطة، فإن نقاط توزيع المساعدات ستقام في مناطق "آمنة" تخضع لسيطرة الجيش الإسرائيلي جنوب القطاع، وستُدار من قبل شركات أمنية أمريكية خاصة، لتفادي وصول أي من هذه المواد إلى مقاتلي حماس.
وقال مسؤول إسرائيلي كبير للصحفيين إن هذه الخطوة جاءت بعد توصيات عسكرية حذرت من أن النقص الحاد في الغذاء "سيؤدي إلى انفجار إنساني" قد يُقوّض استمرار العمليات القتالية الإسرائيلية.
مخاوف من مجاعة وحرج أمام المجتمع الدولي
منذ منع إدخال المساعدات في الثاني من مارس، انزلقت غزة تدريجيًا نحو كارثة إنسانية شاملة، وحسب مسؤولي الإغاثة، فإن المخزون الغذائي التابع للأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية بدأ ينفد منذ أسابيع، وسط مشاهد يومية لأطفال ونساء ينتظرون وجبة تسد الرمق في مخيمات كالنصيرات ودير البلح.
الأمم المتحدة أكدت، عبر المتحدث باسم مكتب التنسيق الإنساني، أن محادثات لوجستية جارية مع "إسرائيل" لتسهيل إيصال المساعدات "بشكل محدود"، في انتظار انطلاق الآلية الأمريكية الكاملة.
اليمين الإسرائيلي يشتعل غضبًا: "نتنياهو ينهار"
رد الفعل داخل الحكومة لم يتأخر، فقد شنّ وزراء ومشرّعون من التيار اليميني المتطرف حملة انتقادات لاذعة ضد القرار، واعتبروه رضوخًا مذلًا للضغوط الأمريكية، وتراجعًا عن تعهدات قطعها نتنياهو في أكثر من مناسبة بعدم السماح "بإطعام العدو"، وفق تعبيرهم.
صحيفة تايمز أوف إسرائيل أكدت أن النقاش داخل مجلس الوزراء لم يشمل تصويتًا رسميًا، بل اقتصر على مداولات، بعضها انقلب إلى جدالات حادة حول ما إذا كانت غزة تعيش مجاعة بالفعل.
ما بعد القرار: تهدئة أم خدعة تكتيكية؟
يبدو أن نتنياهو يحاول كسب الوقت والموازنة بين ضغط الخارج وغضب الداخل، فبينما يبرر القرار بأنه "ضرورة عملياتية" تسمح باستمرار الحملة العسكرية، تؤكد الأصوات المعارضة أن هذا التبرير لا يصمد أمام الواقع، وخاصة مع تقارير عن تحضير إدارة أمريكية جديدة تُعرف باسم "مؤسسة غزة الإنسانية" لتولي إدارة ملف المساعدات بالكامل.
الرئيس الأمريكي ترامب قالها صراحة: "الكثير من الناس يتضورون جوعًا في غزة، وسنعمل على إنهاء هذه المشكلة"، في تصريح قد يشكل عنوان مرحلة جديدة من الضغط المنسق على الكيان الصهيوني.
بين انتقادات الداخل وتهديدات الخارج، يجد نتنياهو نفسه في موقف لا يُحسد عليه. فقرار السماح بدخول مساعدات إلى غزة، رغم كل ما يمثله من تراجع سياسي، يبدو في نهاية المطاف أقل تكلفة من انفجار إنساني قد يجرّ على "إسرائيل" وابلًا من الإدانات والعزلة الدولية، لكن السؤال الأهم الآن: هل هذه الخطوة بداية تحول حقيقي في موقف الكيان الصهيوني من ملف غزة، أم مجرد "استراحة تكتيكية" في حرب طويلة لا نهاية واضحة لها؟