الوقت - في لحظة حرجة تمر بها القضية الفلسطينية، عاد الرئيس محمود عباس ليحرّك المياه الراكدة في ملف المصالحة الوطنية، مستندًا إلى لحظة سياسية مفصلية فرضتها تطورات ما بعد السابع من أكتوبر، وإلى أرضية جديدة وضعتها اتفاقية بكين بين الفصائل الفلسطينية، حيث باتت الصين وسيطًا دوليًا في معادلة فلسطينية طالما احتكرها الإقليم.
مصادر فلسطينية مطلعة كشفت لـ«الشرق الأوسط» أن عباس أوعز إلى قيادة حركة «فتح» والفصائل الأخرى المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية بالانخراط في حوار مباشر وجاد مع حركة «حماس»، بهدف التوصل إلى اتفاق شامل يعيد تشكيل النظام السياسي الفلسطيني بمشاركة الجميع.
لكن عباس، الذي بدا منفتحًا في الشكل، كان حازمًا في المضمون؛ إذ اشترط أن تتحول «حماس» إلى حزب سياسي مدني، يسلّم إدارة قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، ويلتزم بقراراتها وقوانينها، في إطار وحدة النظام السياسي تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية.
من رام الله إلى بكين.. دعوة للحوار ولكن بشروط
وجاءت هذه التحركات عقب اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير في نهاية الشهر الماضي، والذي رسم سقفًا سياسيًا واضحًا: لا حوار من دون اعتراف «حماس» بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وبالقدس الشرقية عاصمة لها، وبأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
في كلمته التي ألقاها خلال افتتاح مركز استشاري لعلاج السرطان في رام الله، كرّر الرئيس عباس رسائله السياسية بشكل مباشر: «نحن جاهزون لتسلم قطاع غزة، لكن على قاعدة واحدة: لا أحد يحكم غزة إلا الدولة الفلسطينية»، وأضاف: «من يريد الوحدة يجب أن يلتزم بمنظمة التحرير الفلسطينية، فهي البيت الجامع».
بكين: من منصة اقتصادية إلى حاضنة سياسية
في تموز/يوليو 2024، كان للعاصمة الصينية بكين دور غير مسبوق حين جمعت فتح وحماس على طاولة المصالحة، برعاية سياسية مباشرة من القيادة الصينية، الاتفاق الذي وقع هناك نصّ على تشكيل حكومة وحدة وطنية تمهّد لتطبيق الحل السياسي، ووقف دائم لإطلاق النار، والاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية.
ورغم أن الاتفاق لم يُنفَّذ عمليًا، إلا أنه شكّل نقطة تحوّل رمزية ونفسية، فتحت الباب أمام حماس للظهور كلاعب سياسي لا يقف على الضفة المقابلة من الشرعية الفلسطينية، بل يسعى إلى إعادة التموضع داخلها.
حماس: مقاومة لا تقبل الضغوط
ومع ذلك، فإن «حماس» لا تزال تتمسك بموقعها كحركة مقاومة وطنية ضد الاحتلال الصهيوني، وترفض بشدة ما تعتبره محاولات لتشويه صورتها أو تحميلها وحدها مسؤولية الانقسام والمأساة في غزة، وتؤكد الحركة أن المقاومة المشروعة هي حق أصيل للشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن تكون موضع مساومة أو ابتزاز سياسي.
وفي هذا السياق، شدد مصدر في «حماس» على أن الحركة «لا تقبل الضغوط ولا الإملاءات»، مشيرًا إلى أن من يريد المصالحة عليه أن يعترف أولًا بالدور الوطني الذي لعبته الحركة طوال السنوات الماضية في مواجهة الاحتلال، وأن أي اتفاق يجب أن يُبنى على قاعدة التفاهم والشراكة، لا على لغة الاتهام والإنكار.
وأضاف المصدر: «نحن لا نطلب امتيازات، بل نطالب بحقوقنا كشريك في النضال الوطني، ولا يمكن تجاوزنا أو تحميلنا وزر ما آلت إليه القضية بينما نواجه عدوانًا مستمرًا من الاحتلال الصهيوني».
مشهد داخلي يتغير بهدوء
في موازاة ذلك، لا تغيب عن المشهد التحولات الجارية داخل السلطة الفلسطينية نفسها، فالرئيس عباس، الذي نادرًا ما يجري تغييرات عميقة، أطلق في الأشهر الأخيرة سلسلة خطوات لافتة، شملت استحداث منصب نائب الرئيس، وتغييرات جذرية في قيادة الأجهزة الأمنية، وإحالة المئات من كبار المسؤولين إلى التقاعد.
هذه التغييرات، كما تراها بعض الأوساط السياسية، لا تنفصل عن الرغبة في تهيئة الأرضية لمصالحة محتملة، أو حتى لتوريث سياسي منظم، في حال قرر الرئيس البالغ من العمر 89 عامًا مغادرة المسرح.
ما بين تصريحات عباس، واستعدادات «حماس»، ووساطة بكين، تقف المصالحة الفلسطينية أمام مفترق طرق، فإما أن تثمر هذه الجهود عن وحدة فلسطينية طال انتظارها، تُخرج القضية من عنق الزجاجة وتعيدها إلى الساحة الدولية، أو يُضاف اتفاق بكين إلى قائمة طويلة من الأوراق التي حملت تواقيع الفصائل... لكنها لم تحمل السلام.