الوقت- في تطور أمني بالغ الأهمية، كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية عن نجاح حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في زرع جاسوس مزدوج داخل جهاز الأمن العام الإسرائيلي "شاباك"، ما أدى إلى تضليل أمني واستخباري واسع النطاق داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية، هذا الكشف يأتي في توقيت حساس تحاول فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي استيعاب تداعيات عملية الـ 7 من أكتوبر 2023، التي اعتُبرت من أكثر الضربات المفاجئة دقةً وتأثيرًا منذ عقود، وسط اتهامات داخلية بتقصير أمني واستخباري كبير.
ورغم أن الكشف عن هذه الحادثة يسلط الضوء على ثغرات مؤسساتية وأمنية إسرائيلية، يرى محللون أن التوقيت ليس بريئًا، وأن الهدف من تسليط الضوء على "الاختراق المزدوج" هو محاولة حرف الأنظار عن الفشل الاستخباري الإسرائيلي في منع هجوم حماس الخاطف.
كيف بدأ الاختراق؟
وفق ما نشرته "يديعوت أحرونوت" (ديسمبر 2023)، فإن ضابطًا في الشاباك تواصل مع أحد سكان غزة لتجنيده كعميل سري مقابل مكافآت مالية وتأمين عائلي، إلا أن هذا الشخص لم يكن سوى عنصر مرتبط بحماس، نقل على الفور العرض إلى قيادة الجهاز الأمني التابع للحركة.
بتنسيق دقيق، تم تدريب "الجاسوس المزدوج" على التعامل مع تعليمات الشاباك، وتزويده بمعلومات مضللة أو انتقائية تخدم المصالح الأمنية للمقاومة الفلسطينية، تمكّن هذا العميل من اختراق بعض آليات التواصل والتجنيد، ما مكّن حماس من فهم هيكلية العمل الأمني للكيان الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، والتموضع بفاعلية داخل الفضاء الاستخباري للعدو.
إضافة إلى ذلك، رصدت المقاومة تقنيات تجسس حديثة استخدمها الشاباك، منها شرائح إلكترونية تُبرمج لمرة واحدة وتُدمّر ذاتيًا، وهو ما عُدّ تحديًا كبيرًا للأجهزة الأمنية الفلسطينية، لكن فرق الأمن السيبراني التابعة للمقاومة استطاعت التعامل مع هذه التكنولوجيا، وفك شيفرات اتصالات حساسة، ما أدى لاحقًا إلى تفكيك عدة خلايا تجسسية تعمل لحساب "إسرائيل".
بين الإنجاز الأمني والفضيحة المؤسسية
الكشف عن جاسوس مزدوج ناجح داخل الشاباك يضع تساؤلات جوهرية حول كفاءة الجهاز في التعامل مع عمليات التجنيد، ورغم أن "شاباك" يُعد من أكثر أجهزة الاستخبارات تطورًا وتشدداً من حيث المعايير الأمنية، إلا أن اختراقه على هذا المستوى يمثل ضربة معنوية ومهنية غير مسبوقة، وخاصة أنه لم يتم رصد الجاسوس إلا بعد فترة طويلة من "التعاون الأمني".
من جهة أخرى، يشير هذا الاختراق إلى خلل في منظومة التحقق والتدقيق داخل الشاباك، حيث يتم غالبًا تجنيد العملاء بناءً على الاحتياج الميداني دون المرور بإجراءات تحقق معمقة، ما يسمح بتسلل عناصر معادية إلى قلب المؤسسة.
على الطرف الآخر، يُعد هذا النجاح لحماس خطوة متقدمة في مجال العمل الاستخباري، ويعكس تطورًا في مهارات الحركة على صعيد جمع المعلومات، وتوظيف التقنيات الحديثة، والقدرة على تحليل سلوك العدو، كما يُظهر هذا الحدث أنّ المقاومة الفلسطينية لم تعد تكتفي بالعمل الميداني والعسكري، بل باتت تتحرك في فضاءات الحرب غير التقليدية، وعلى رأسها الحروب السيبرانية والمعلوماتية.
تشير تقارير غير رسمية إلى أن حماس أنشأت وحدات أمنية مختصة بمواجهة "حرب العقول"، وتضم هذه الوحدات كوادر مدرّبة على تحليل البرمجيات، ومكافحة التجسس، والاختراق المعاكس.
محاولة لصرف الانتباه عن الـ 7 من أكتوبر؟
التوقيت الذي اختارت فيه وسائل الإعلام العبرية الكشف عن قصة الجاسوس المزدوج يطرح علامات استفهام عديدة، فبعد قرابة شهرين من الهجوم المفاجئ لحماس في الـ 7 من أكتوبر، لا تزال القيادة الإسرائيلية تتعرض لانتقادات داخلية حادة تتهمها بالفشل الكامل في التنبؤ أو التصدي للهجوم.
يرى محللون أن تسريب هذه القصة الآن يأتي في إطار استراتيجية دعائية تهدف إلى امتصاص الغضب الداخلي، عبر الإيحاء بأن "العدو كان يخدعنا من الداخل"، وبالتالي تخفيف الضغط عن القيادة العسكرية والسياسية.
لكن هذا التبرير قد ينقلب ضده، إذ إن اختراقًا بهذا الحجم – إذا صحّت تفاصيله – لا يُعفي الشاباك من المسؤولية بل يضاعفها، ويؤكد هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية.
من هو الشاباك؟
جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) هو جهاز استخباري داخلي تأسس عام 1949، وتُعهد إليه مهمات تشمل مكافحة "الإرهاب"، وملاحقة النشاطات المعادية لـ"إسرائيل" في الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة، يعمل الشاباك على تجنيد مصادر بشرية، ويعتمد على تقنيات متقدمة في التعقب والتنصت وتحليل البيانات.
عادة ما يتم الترويج لصورة الشاباك على أنه "قلعة استخبارية منيعة"، إلا أن عدة فضائح وتسريبات في السنوات الأخيرة – منها اختراقات إلكترونية إيرانية وحوادث تسريب معلومات من داخل الجهاز – بدأت تُحدث شرخًا في هذه الصورة النمطية.
بداية مرحلة استخبارية جديدة؟
ما جرى في هذه القضية يُعد مؤشرًا واضحًا على أن الصراع بين حماس والاحتلال الإسرائيلي دخل مرحلة جديدة، قوامها التفوق الاستخباري والمعلوماتي، وليس فقط التفوق الناري أو التكنولوجي.
تُدرك المقاومة الفلسطينية أن التحكم في المعلومة، وتوجيهها، وتوظيفها، لا يقل أهمية عن إطلاق الصواريخ أو حفر الأنفاق، ومن جهة أخرى، تكشف هذه الحادثة حجم الضغط الذي تواجهه المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وانكشافها أمام استراتيجيات جديدة قد تُعتمد في المستقبل.
إن نجاح حماس في إدخال عنصر مزدوج إلى الشاباك لا يُعد فقط ضربة أمنية لـ"إسرائيل"، بل صفعة استخبارية في عمق عقلها الأمني، ويدعو هذا إلى مراجعة شاملة لكل آليات التعامل الأمني في غزة، ولربما في الضفة والقدس أيضًا.