الوقت- في سياق التصعيد العسكري المستمر في قطاع غزة، وجّه الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان، في مقال نُشر بصحيفة نيويورك تايمز في 10 مايو 2025، انتقادات حادة لحكومة بنيامين نتنياهو، مؤكدًا أنها لم تعد تمثل حليفًا استراتيجيًا موثوقًا للولايات المتحدة، وحذر من أن السياسات التي تتبعها "إسرائيل"، وعلى رأسها تكثيف الهجمات العسكرية على غزة، قد تجر المنطقة نحو صراع طويل ومعقد، يُشبه في طبيعته وتداعياته حرب فيتنام، ولكن على شواطئ البحر المتوسط.
فريدمان، الذي يُعرف بقراءته العميقة للسياسات الشرق أوسطية، لم يُخفِ قلقه من التحول النوعي في الموقف الإسرائيلي، وخصوصًا في ظل حكومة تضم مكونات يمينية متطرفة لا تؤمن بالتعايش مع الفلسطينيين ولا تسعى لحل سياسي للصراع، ويرى أن التوجهات الحالية للحكومة الإسرائيلية تتناقض تمامًا مع مصالح واشنطن، التي تبحث عن استقرار طويل الأمد في المنطقة.
تأتي هذه التصريحات في لحظة مفصلية من الأزمة، إذ يشهد قطاع غزة منذ مارس 2025 موجة جديدة من التصعيد العسكري، عقب انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قد أُبرم بوساطة مصرية-أمريكية في يناير من العام نفسه، ومنذ ذلك الحين، شنت دولة الاحتلال الاسرائيلي عشرات الغارات الجوية التي أوقعت مئات القتلى والجرحى، غالبيتهم من المدنيين، بينهم نساء وأطفال.
في 7 مايو تحديدًا، وقعت واحدة من أعنف الغارات، حين استهدفت الطائرات الإسرائيلية شارع الوحدة المكتظ في مدينة غزة، ما أسفر عن مقتل 33 فلسطينيًا على الأقل، وإصابة عشرات آخرين. هذه الحادثة أثارت غضبًا واسعًا في الأوساط الدولية، حيث وصفتها منظمات حقوقية بأنها قد ترقى إلى "جريمة حرب" بموجب القانون الدولي.
بالتوازي، أعلنت حركة حماس، في 10 مايو، أنها دخلت في مفاوضات "مباشرة ومتقدمة" مع الإدارة الأمريكية، في محاولة للتوصل إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار. وأبدت الحركة استعدادها للإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر، كبادرة حسن نية لتهيئة المناخ أمام تسوية محتملة، هذه الخطوة تُعد تطورًا لافتًا، وخاصة أن واشنطن لم تكن منخرطة بشكل مباشر في مفاوضات مع حماس خلال الأعوام الماضية.
إلا أن الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو، قابلت هذه التحركات بتعنت واضح، وأصرت على استمرار عملياتها في غزة بدعوى "القضاء على التهديدات الأمنية"، متجاهلة الدعوات الدولية للتهدئة، ومتجاوزة الضغوط الأمريكية المتصاعدة لوقف إطلاق النار، وقد رأى مراقبون أن هذا الموقف الإسرائيلي يعكس اتجاها نحو تصعيد مفتوح، قد تكون له تداعيات إقليمية أوسع، تشمل زعزعة الاستقرار في الضفة الغربية والقدس، وربما حتى إشعال مواجهات مع "حزب الله" على الجبهة الشمالية.
تحليل فريدمان ينطلق من رؤية استراتيجية أوسع، إذ يرى أن واشنطن باتت أمام مفترق طرق في علاقتها مع الكيان الاسرائيلي، فحكومة نتنياهو لم تعد تستند إلى قيم مشتركة مع الولايات المتحدة في ما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل تسير في مسار انعزالي قائم على استخدام القوة المفرطة، ورفض أي تسوية عادلة مع الفلسطينيين، ويتساءل فريدمان في مقاله: "إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة أن تواصل دعم حكومة تتعارض سياساتها مع مصالحنا وقيمنا؟".
وفيما يبدو أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل عملياته دون سقف زمني محدد، فإن الأوضاع الإنسانية في غزة تتدهور بشكل خطير، فقد أشار تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في مايو 2025 إلى أن أكثر من 70% من سكان القطاع يعيشون تحت خط الفقر، فيما تجاوزت نسبة البطالة 45%، كما أن البنية التحتية الصحية تعاني من انهيار شبه كامل بسبب القصف، ونقص الإمدادات الطبية، وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة.
وتُحذر منظمات إنسانية من أن استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات قد يؤدي إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، وفي الوقت ذاته، يزداد الغضب الشعبي في الدول العربية المجاورة، ما يهدد باضطرابات داخلية قد تطال الأمن القومي لدول مثل مصر والأردن ولبنان، وهو ما قد يشكل تحديًا إضافيًا للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.
الربط الذي عقده فريدمان بين غزة وحرب فيتنام لم يكن مجازيًا فقط، بل يستند إلى مؤشرات ميدانية، أهمها غياب أهداف استراتيجية واضحة للعمليات الإسرائيلية، والاعتماد المفرط على القوة العسكرية بدلًا من المبادرات السياسية، ويرى فريدمان أن السيناريو الأسوأ هو أن تجد واشنطن نفسها متورطة - بشكل مباشر أو غير مباشر - في صراع لا نهاية له، ما لم تتخذ خطوات حازمة لإعادة توجيه سياساتها، بما يضمن وقف التصعيد والدفع نحو حل سياسي شامل.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، تتزايد الدعوات داخل الأوساط السياسية الأمريكية لإعادة النظر في العلاقة مع الحكومة الإسرائيلية. فقد بدأت أصوات من الكونغرس، حتى من داخل الحزب الديمقراطي، تطالب بربط المساعدات العسكرية الأمريكية لـ"إسرائيل" بشروط تتعلق باحترام حقوق الإنسان ووقف التوسع الاستيطاني.
خلاصة القول إن التطورات المتسارعة في غزة، والمواقف المتصلبة من الطرفين، تنذر بصيف ساخن في الشرق الأوسط، وإذا ما استمرت واشنطن في دعمها غير المشروط لحكومة تتصرف خارج إطار القانون الدولي، فإنها تخاطر بفقدان ما تبقى من مصداقيتها كوسيط نزيه في المنطقة، من هنا، يصبح من الضروري أن تتحرك الإدارة الأمريكية بسرعة وفعالية، ليس فقط لإنهاء القتال، بل لإطلاق عملية سياسية حقيقية تضمن سلامًا دائمًا وعادلًا لجميع شعوب المنطقة.