الوقت- شكّلت الانتخابات الفيدرالية الأخيرة في كندا لحظة فارقة أعادت خلط الأوراق السياسية داخليًا، وفتحت الباب لتساؤلات جادّة حول توجهات السياسة الخارجية، ولا سيما ما يتعلق منها بالعلاقة المتجذرة مع الكيان الإسرائيلي، وبالملف الفلسطيني الذي طالما وُضع على هامش الأولويات الرسمية.
رغم أن زعامة الليبراليين انتقلت إلى مارك كارني، الشخصية ذات الخلفية الاقتصادية الثقيلة، إلا أن هذا التغيير لم يبعث ارتياحًا في الأوساط المؤيدة للكيان الإسرائيلي، بل أثار سخطًا واسعًا في دوائر اللوبي الصهيوني داخل كندا وخارجها، والسبب لا يرتبط بتبنّي كارني خطابًا مناصرًا للفلسطينيين بقدر ما يعود إلى تغيّر السياق السياسي الدولي وصعود حركات معارضة للتوجهات اليمينية المتطرفة التي لطالما دعمتها تل أبيب.
صدمة صهيونية في كندا
لم يكن مفاجئًا أن تخرج أصوات صهيونية كندية بتعليقات متشنجة غداة ظهور النتائج، بعض المؤثرين أعلنوا اعتزامهم مغادرة البلاد، ووصفت كندا بأنها "لم تعد مأوى آمنًا لليهود" أو أنها "تسير نحو أسلمة النظام السياسي"، في إشارة لا تخلو من عنصرية إلى أصوات المهاجرين والمسلمين المتزايدة، تلك التصريحات جاءت انعكاسًا لحالة إحباط ناتجة عن غياب تمثيل سياسي كندي صريح يدافع بشكل مطلق عن الكيان الإسرائيلي، كما كان الحال في عهد الحكومات السابقة.
فوز الليبراليين لا يعني بالضرورة تبنّي أجندة داعمة للقضية الفلسطينية، لكنه في الوقت نفسه كسر النمط التقليدي للدعم غير المشروط للكيان الإسرائيلي، مارك كارني، الذي لا يحمل تاريخًا حافلًا في القضايا الخارجية، اتسمت مواقفه بالحذر، بل بالغموض في بعض الأحيان، فعند سؤاله خلال الحملة الانتخابية عن المذابح في غزة، رفض الإجابة المباشرة ووصف المسألة بأنها "معقدة"، في مناسبة أخرى، سُمع وهو يقول إن بلاده فرضت حظرًا على تصدير الأسلحة إلى الكيان الإسرائيلي، ثم تراجع لاحقًا نافياً سماعه لعبارة "إبادة جماعية".
هذا التردد لم يُرضِ داعمي الكيان الإسرائيلي الذين تعوّدوا من كندا على تصريحات أكثر وضوحًا وولاءً، كما لم يطمئن أنصار فلسطين الذين يرغبون في موقف أكثر حزمًا تجاه الانتهاكات الإسرائيلية.
جذور العلاقة الكندية–الإسرائيلية
تعود العلاقات الرسمية بين كندا و الكيان الإسرائيلي إلى عام 1949، بعد وقت قصير من إعلان قيام الدولة العبرية، وكانت كندا من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان الإسرائيلي، ومنذ ذلك الحين، ساد الخطاب المؤيد للكيان الإسرائيلي على الساحة السياسية الكندية، ولا سيما في ظل هيمنة أحزاب الوسط واليمين.
في العقود الأخيرة، بلغ هذا الدعم ذروته خلال فترة رئيس الوزراء المحافظ ستيفن هاربر (2006–2015)، الذي وصف الكيان الإسرائيلي بـ"حليفة كندا الأخلاقية"، ورفض حتى التوازن الخطابي بين الجانبين، أما في عهد جاستن ترودو، فقد استمر الدعم لكن بخطاب أكثر اعتدالًا، دون المساس بجوهر العلاقة الاستراتيجية.
ترودو نفسه، ورغم ما يُقال عن ليبراليته، لم يتردد في التصريح علنًا بأنه "صهيوني"، في موقف أثار استياء قطاعات واسعة من الجالية الفلسطينية والعربية، ولا سيما عندما تزامن تصريحه مع إعلان الكيان الإسرائيلي نيته قطع الكهرباء عن غزة في خضم الحصار.
كارني بين الإرث الليبرالي والواقع المتغيّر
مارك كارني، بوصفه اقتصاديًا مرموقًا شغل مناصب في بنك كندا وبنك إنجلترا، ينتمي إلى طبقة تكنوقراطية لا تغامر كثيرًا بالمواقف الجذرية، ومع ذلك، فإن عدم وجود سجل حافل له في دعم الكيان الإسرائيلي كما فعل ترودو، فتح الباب أمام تصوّرات جديدة، فعلى الأقل، لم يظهر كارني تحمسًا لتكرار أسطوانة "الدفاع المطلق عن الكيان الإسرائيلي"، رغم الضغط من بعض الشخصيات داخل حزبه.
لكن تعيينه لشخصيات مثل ماركو ميندوسينو، المعروف بولائه الصريح للكيان الإسرائيلي، في مواقع حساسة، يثير الشكوك حول مدى رغبته الفعلية في مقاربة أكثر توازنًا تجاه القضية الفلسطينية.
المحافظون: نسخة كندية من ترامب
على الطرف الآخر من الطيف السياسي، يمثّل حزب المحافظين بقيادة بيير بواليفير التجسيد الكندي للخط الترامبي في دعم الكيان الإسرائيلي، فقد تعهد بنقل السفارة الكندية إلى القدس، ووقف تمويل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، وهي خطوات تعتبر انسجامًا مع سياسات نتنياهو وحلفائه في واشنطن، في المقابل، تعرّض بواليفير لانتقادات داخلية حادة بعد تدخّل علني من رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي لمصلحته، وهو ما اعتبره بعض المحللين محاولة غير مسبوقة للتأثير على القرار السيادي الكندي.
اللافت في هذه الانتخابات هو الحضور المتنامي لصوت المجتمع المدني الكندي، الذي بدأ يطالب علنًا بمساءلة الحكومة بشأن موقفها من الإبادة في غزة، حملات مثل "صوّتوا لفلسطين" لم تقتصر على التوعية بل عملت على تنسيق الضغط السياسي والبرلماني من خلال تعهدات وقعها مرشحون بدعم حقوق الفلسطينيين ورفض تجارة السلاح مع الكيان الإسرائيلي.
وقد تُرجمت هذه الجهود إلى مكاسب انتخابية، إذ فاز 26 مرشحًا ممن التزموا بمبادئ الحملة، معظمهم من الحزب الليبرالي والحزب الديمقراطي الجديد.
مشهد دولي جديد... والكيان الإسرائيلي في مأزق
تأتي هذه التحولات في كندا ضمن سياق دولي أكثر اتساعًا، حيث يشهد المعسكر الليبرالي العالمي صعودًا نسبيًا مقابل التراجع الذي يواجهه التيار اليميني الشعبوي المقرّب من الكيان الإسرائيلي، فنجاح حزب العمال في بريطانيا، وتعافي قوى يسارية في أستراليا وأوروبا، يشكّلان تحديًا متصاعدًا لحلفاء تل أبيب، هذا التغير بات يربك الحسابات الإسرائيلية، التي لطالما راهنت على نفوذ يميني قوي في العواصم الغربية.
أما كندا، فإنها لم تعد ذلك البلد الذي تُسلَّم فيه السياسة الخارجية لمجموعات الضغط الصهيونية دون نقاش، فالمشهد الآن مفتوح على مفاوضات داخلية حامية بين الشارع المتعاطف مع فلسطين، والنخب الحاكمة التي لم تقرر بعد ما إذا كانت ستواصل الإرث التقليدي أم تنتهج مقاربة جديدة تُوازن بين المصالح والقيم.
بالتالي، لا يمكن اعتبار فوز مارك كارني بمثابة نصر للفلسطينيين أو هزيمة للصهاينة، لكنه خطوة في طريق طويل من التحولات، فكندا اليوم، وإن لم تُنقل سفارتها من تل أبيب، قد تنقل موقعها الرمزي من خندق الدعم الأعمى إلى خانة النقد الحذر، ومع تزايد الضغوط الشعبية وفضائح الحرب في غزة، قد تكون كندا إحدى الجبهات غير المتوقعة التي تشهد تحولات نوعية في الموقف من فلسطين.