الوقت- في قطاع غزة، حيث لا تهدأ أصوات الانفجارات، وسماء الليل لا تعرف الظلمة من وهج الصواريخ، تتوالى فصول جديدة من جريمة لا تقتصر على القتل والقصف والهدم، بل تمتد إلى أعماق الحياة ذاتها، إلى أرحام النساء، حيث تُشنّ حرب صامتة على الجينات وعلى الأجيال القادمة.
الطفلة "ملك أحمد القانوع"، التي ولدت في مستشفى العودة شمال غزة دون دماغ، ليست مجرد حالة طبية، بل تمثّل جريمة موثقة ضد الإنسانية، رأس غير مكتمل، جمجمة تنتهي فوق العينين، وجسد بريء خرج إلى الحياة يحمل بصمة الموت قبل أن يتنفس أول أنفاسه، هذه الطفلة ليست ضحية سوء حظ، بل ضحية إشعاعات وتجارب حربية إسرائيلية على أجساد المدنيين، حسب ما أكده الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة.
تشوّه الأجنة.. مؤشر على الإبادة البيولوجية
لم تكن حالة "ملك" الأولى ولن تكون الأخيرة، في ظل تزايد ملحوظ لحالات التشوهات الخلقية بين المواليد الجدد في غزة، ظاهرة تترافق مع استخدام الاحتلال أسلحة محرّمة دوليًا، ما جعل من القطاع المعزول حقل تجارب مكشوفًا، تقارير طبية وحقوقية فلسطينية ودولية حذّرت مرارًا من تأثير القنابل المشعة والغازات السامة المنبعثة من الصواريخ على النساء الحوامل، والنتيجة: ارتفاع بمعدلات الإجهاض بنسبة تزيد على 300% منذ بدء العدوان، وتشوهات مروعة لم تشهدها حتى مناطق النزاع الأخرى في العالم الحديث، إن ما يحدث اليوم يعيد إلى الأذهان ما جرى في العراق عقب الغزو الأمريكي، حين انتشرت التشوهات الخلقية بشكل واسع نتيجة التلوث الإشعاعي، ويبدو أن غزة تُدفع الآن إلى المصير ذاته، في ظل صمت أممي مدوٍّ، وعجز دولي مقصود.
ساحة تجريب لأسلحة "غير تقليدية"
الأدلة تتراكم، والمشهد بات أكثر وضوحًا الاحتلال لا يكتفي بالقنابل والصواريخ التقليدية، بل يستخدم أسلحة حرارية وكيميائية، صُنعت في مختبرات أمريكية، تؤدي إلى تبخر الأجساد، وتترك آثارًا حارقة لا تترك للطب الحديث فرصة للفهم أو التدخل، وزارة الصحة في غزة، والمكتب الإعلامي الحكومي، رصدا عشرات الحالات التي تؤكد ذلك، ودعت فصائل المقاومة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية لتوثيق هذه الجرائم، لكن، من سيحقق؟ ومن سيحاسب؟ ما جدوى لجنة جديدة إن كانت المؤسسات الدولية قد أثبتت عجزها، أو بالأحرى، خضوعها الكامل لإملاءات القوى العظمى الداعمة للاحتلال، وعلى رأسها الولايات المتحدة؟
الاحتلال لا يقتل الأحياء فقط.. بل يمنع ولادة الأمل
جريمة الاحتلال لا تقتصر على من يسقط شهيدًا تحت الأنقاض، أو من يدفن تحت الركام، بل تشمل من يُنتزع حقه في الحياة قبل أن يولد، إنها حرب شاملة، تشنّها "إسرائيل" على الحياة الفلسطينية بكل صورها: تدمير البنية التحتية، إحراق المستشفيات، منع دخول الدواء، وها هي الآن تفتك بالأجنة في الأرحام، الأسوأ من ذلك أن الاحتلال يدرك ما يفعل، ويتعمد استهداف النساء الحوامل وأطفالهن كجزء من استراتيجية طويلة الأمد لـ"إضعاف النسل"، وخلق أجيال مريضة أو ناقصة، في عملية إبادة بطيئة، ناعمة، لكنها لا تقل دموية عن المجازر المفتوحة.
العالم يتفرج.. والمقاومة تسجّل بدمها وثائق الإدانة
في كل مرة توثق فيها غزة جريمة جديدة، تُضاف إلى ملف مفتوح من الانتهاكات، يسارع العالم بإصدار بيان إدانة، أو يعرب عن "قلقه العميق"، ثم يلتفت إلى قضاياه الأخرى، لم يعد الفلسطينيون ينتظرون كثيرًا من هذا العالم، لكنهم يواصلون فضح الجريمة بصمودهم، وبكفاحهم على الأرض، وبكشفهم للحقائق مهما كانت موجعة، إن الطفلة "ملك" ومن سبقها من الأجنة المشوهة، باتوا شهودًا على حرب لا يعرف كثيرون أنها تجري، حرب لا تُقاس بالضحايا فقط، بل بالتحولات الجينية، وبالأرحام التي حُرمت من الإنجاب السليم، وبالطبيب الذي لم يعد قادرًا على فعل شيء سوى تسجيل الكارثة.
صمت دولي مخزٍ وتواطؤ أخلاقي مع الجريمة
ما يثير الاستنكار والاشمئزاز في هذه الجريمة المستمرة ضد سكان قطاع غزة، ليس فقط حجم الانتهاكات، بل تواطؤ المجتمع الدولي عبر صمته المطبق، إن استمرار حالات ولادة أطفال مشوهين، كـ "ملك القانوع"، يعكس مدى تغافل المؤسسات الأممية عن واحدة من أبشع جرائم الإبادة البيولوجية في العصر الحديث، لم يعد الأمر مجرد انتهاك لحقوق الإنسان، بل تحدٍ فاضح للقوانين الدولية، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة، التي تجرّم استهداف المدنيين، وخاصة النساء الحوامل والأطفال.
التقارير الموثقة حول استخدام الاحتلال لأسلحة غير تقليدية، تشمل قنابل مشعة وغازات كيميائية، لم تعد محض ادعاءات سياسية، أطباء، وفود دولية، ومنظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"يونيسيف"، أكدت المؤشرات الكارثية على الصحة الإنجابية في غزة، ومع ذلك، لم تتحرك أي محكمة دولية، ولم تُشكل لجنة تحقيق ذات مصداقية، بل استمر الدعم الأمريكي والأوروبي لكيان الاحتلال، سياسياً وعسكرياً.
هنا، لا يمكن الحديث عن حياد أو ازدواجية معايير فقط، بل عن شراكة صريحة في الجريمة، كيف يمكن لمن يموّل السلاح، ويمنع صدور قرار في مجلس الأمن، أن يدعي أنه مدافع عن حقوق الإنسان؟ إنها مهزلة أخلاقية عالمية، يدفع الفلسطينيون ثمنها بأجساد أطفالهم وأجنة نسائهم، في عالم عادل، كانت هذه الجرائم كافية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين كمجرمي إبادة جماعية، لا كطرف في "نزاع"، لكن يبدو أن القانون الدولي نفسه يُدفن في غزة، كما تُدفن الأجنة المشوهة بصمت موجع.
حرب على الهوية والوجود لا على الأرض فقط
إن ما يجري في غزة ليس مجرد صراع سياسي تقليدي أو رد عسكري عابر، بل هو مشروع استئصال منظم يستهدف الهوية الفلسطينية ذاتها، عبر أدوات جديدة أكثر خبثاً، استخدام أسلحة تجريبية تُحدث تشوهات جينية لا يُعد فقط جريمة حرب، بل يدخل ضمن تعريف الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية البيولوجية، هذه ليست مجرد "أضرار جانبية"، بل خطة ممنهجة لضرب النسل الفلسطيني، وتفكيك المجتمع من الداخل عبر استهداف مستقبله البيولوجي.
عندما يولد طفل بلا دماغ، أو بأطراف مشوهة، أو لا يستطيع البقاء أكثر من ساعات، فذلك لا يخلق فقط معاناة إنسانية للأسر، بل يعمّق الإحساس الجماعي لدى الفلسطينيين أنهم مستهدفون ليس في حاضرهم فقط، بل في حقهم في البقاء والاستمرار كأمة، هذه الحرب تستهدف الأرحام، والعقول، والتطور الطبيعي للأجيال، وهو ما يُنذر بخطر طويل المدى على النسيج السكاني والاجتماعي في غزة.
المأساة هنا أن الاحتلال لا يواجه أي عواقب، بل يستغل انشغال العالم بالحروب الأخرى، وضعف المنظومة الدولية، ليُمعن في فرض نموذج إبادة ناعم، لا تُظهره الكاميرات، ولا يثير صدمة فورية كما تفعل المجازر الجماعية، لكن نتائجه أكثر فتكاً: جيل بأكمله يُولد مشوهاً أو لا يُولد أصلاً، إنها حرب على الوجود، وليست مجرد احتلال لأرض، والمفارقة أن هذه الجرائم تُرتكب باسم "الدفاع عن النفس"، في حين يُحرَم شعب بأكمله من حقه الأساسي في الحياة، والولادة، والنمو.
في الختام، ما يجري في غزة لم يعد مجرد حرب، بل كارثة إنسانية تحمل بصمات الإبادة البيولوجية، الأطفال يُولَدون مشوهين، الأجنة تُستهدَف، والعالم يصمت كأن الدم الفلسطيني أقل قيمة، أمام هذا الإجرام المستمر، فإن التاريخ لن يرحم المتواطئين، ولن يغفر للمتحاملين صمتهم، غزة اليوم تُحاكم الضمير العالمي، وتحمل وحدها لواء البقاء في وجه الموت المنهجي.