الوقت- شهدت مدينة لاهاي الهولندية، خلال الأسبوع الأخير من أبريل 2025، واحدة من أكثر المحطات القانونية والسياسية حساسية في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، حيث استضافت محكمة العدل الدولية أسبوعاً كاملاً من جلسات استماع تاريخية، لبحث الالتزامات القانونية والإنسانية الواقعة على كاهل "إسرائيل" كقوة احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، ولا سيما في ظل الحرب المدمّرة على غزة، واستمرار الحصار الشامل الذي تفرضه على القطاع منذ أكتوبر 2023.
خلفية الجلسات: القانون الدولي على المحك
تأتي هذه الجلسات في سياق رأي استشاري طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2024، عبر قرار نرويجي صوّتت لمصلحته أغلبية كبيرة، القرار يدعو المحكمة إلى توضيح واجبات "إسرائيل" القانونية كقوة احتلال، وخاصة فيما يتعلق بتمكين وصول المساعدات الإنسانية، ودعم أنشطة الأمم المتحدة ووكالاتها في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وتأتي أهمية هذه الجلسات من كونها جزءاً من مسار قانوني–دولي متصاعد، يسعى إلى تحميل حكومة الاحتلال الإسرائيلي مسؤولياتها الإنسانية والقانونية، بعد شهور من الإبادة الجماعية، والتي وثقتها مؤسسات دولية مستقلة، وأكدتها بالأرقام والتقارير الأمم المتحدة نفسها.
منصة دولية ضد الاحتلال: 40 دولة ومنظمة ترفع الصوت
شاركت أكثر من 40 دولة ومنظمة إقليمية ودولية في هذه الجلسات، من بينها: فلسطين، مصر، تركيا، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، فرنسا، روسيا، الصين، بالإضافة إلى جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي، بينما رفضت "إسرائيل" المشاركة، مكتفية بالهجوم على المحكمة والأمم المتحدة، واصفة إياهما بـ"المنحازتين والمعاديتين للسامية"، وهو خطاب معتاد تلجأ إليه تل أبيب لتقويض أي مساءلة دولية.
مرافعة فلسطين: فضح الجريمة المنظمة
كانت دولة فلسطين أول من قدّم مرافعته أمام هيئة المحكمة المكوّنة من 15 قاضيًا، مسلّطة الضوء على الحصار الكامل المفروض منذ أكثر من 50 يوماً على قطاع غزة، بما يشمل منع الغذاء والدواء والوقود والمياه، وسط تحذيرات أممية من دخول القطاع في مراحل المجاعة.
وقدّمت فلسطين أدلة موسعة على الاستهداف المنهجي للبنية التحتية المدنية، وتدمير المستشفيات ومراكز الإغاثة، ومنع عمل وكالات الأمم المتحدة وعلى رأسها الأونروا، هذا كله، حسب المرافعة، يشكل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف، وقد يرقى إلى جريمة إبادة جماعية.
الدول الداعمة لفلسطين: وحدة الموقف الإنساني
من اللافت أن معظم الدول المشاركة اتفقت على أمرين رئيسيين:
أولهما، أن حكومة الاحتلال تخلّت عن التزاماتها الإنسانية والدولية بشكل سافر.
والأمر الثاني، أن المجتمع الدولي فشل في وقف هذه الانتهاكات بسبب ازدواجية المعايير وصمت بعض القوى العظمى.
على سبيل المثال، أكدت إندونيسيا أن "إسرائيل" تمارس تطهيرًا عرقيًا وتحديًا صريحًا للقانون الدولي، أما روسيا فقد وصفت ما يجري بأنه "أزمة قانونية وإنسانية" تهدد بانهيار النظام الإنساني في غزة، وأشارت إلى أن استمرار العمليات في الضفة الغربية قد يؤدي لتكرار سيناريو الإبادة هناك.
فرنسا من جهتها، رغم علاقتها بكيان الاحتلال الاسرائيلي، دعت إلى رفع القيود عن دخول المساعدات فورًا، واعتبرت أن على تل أبيب تسهيل عمل الأونروا وعدم عرقلته، كما أكدت أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام.
الموقف الأمريكي: دعم مطلق للإفلات من العقاب
في المقابل، قدّمت الولايات المتحدة مرافعة وُصفت بأنها صادمة، إذ دافعت عن الحصار الإسرائيلي، وادعت أن القانون الدولي لا يُلزم "قوة الاحتلال" بإدخال المساعدات الإنسانية في حال وجود "مخاوف أمنية"، واتهم الموفد الأمريكي، غوش سيمنز، الأونروا بعدم الحياد، وبرر منع المساعدات بحجة "عدم ضمان عدم استغلالها من قبل الجماعات الإرهابية".
هذا الموقف لم يكن مفاجئاً، لكنه يعكس إصرار واشنطن على توفير الغطاء القانوني والسياسي لـ"إسرائيل"، حتى في ظل الاتهامات المتزايدة بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقد رأت العديد من المنظمات الحقوقية أن الولايات المتحدة أصبحت شريكة في الجريمة من خلال دعمها اللامشروط.
الأونروا والتهديد بالانهيار
واحدة من النقاط الجوهرية في الجلسات كانت حول الهجوم الإسرائيلي على الأونروا، واتهامها بالإرهاب، واعتبر المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، أن ما يجري في غزة هو "مجاعة من صنع الإنسان وذات دوافع سياسية".
كما أكد أن حكومة الاحتلال الاسرائيلي تسعى لتقويض عمل الوكالة، رغم اعتماد 2.4 مليون فلسطيني في غزة على مساعداتها، ومن دونها، فإن النظام الإنساني في القطاع سينهار تمامًا، في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات.
النتائج المحتملة: هل يتغيّر شيء؟
الرأي الاستشاري الذي ستصدره المحكمة ليس ملزمًا قانونيًا، لكنه يحمل وزنًا سياسيًا وأخلاقيًا كبيرًا، وفي ظل استمرار جهود جنوب إفريقيا في ملاحقة "إسرائيل" أمام المحكمة بتهمة الإبادة الجماعية، يُتوقع أن يضيف هذا الرأي بعدًا جديدًا يُحرج حلفاء تل أبيب، ويضعهم أمام مساءلة شعبية وقانونية.
لكن يبقى السؤال: هل هذا كافٍ؟ فالمحكمة كانت قد أصدرت في يناير ومارس الماضيين تدابير مؤقتة تطالب "إسرائيل" بالسماح بدخول المساعدات ومنع الإبادة، دون أي التزام فعلي من قبل الاحتلال، بل إن الحرب تصاعدت، وزادت عمليات القتل والتجويع بشكل غير مسبوق.
ما بعد لاهاي: اختبار للمجتمع الدولي
تُعد جلسات الاستماع الأخيرة اختباراً لمصداقية النظام الدولي وفعالية القانون الإنساني، فإذا لم تُترجم هذه التوصيات إلى إجراءات سياسية وضغوط حقيقية، فإن ذلك سيكون بمثابة شهادة وفاة للقانون الدولي، ويكرّس منطق القوة والإفلات من العقاب.
وبالنسبة للشعب الفلسطيني، فإن محكمة لاهاي تُعدّ مساحة نادرة للعدالة الدولية، حتى لو بقيت رمزية، لقد رفع الفلسطينيون الصوت عالياً، وفضحوا جرائم الاحتلال بالأدلة، وأجبروا العالم على النظر في الوجه الإنساني للحرب، بعيداً عن الروايات المشوهة والدعاية الغربية.
لا عدالة بلا محاسبة
انتهت جلسات الاستماع، لكن المعاناة مستمرة، الأطفال في غزة ما زالوا يموتون من الجوع، والمجازر لا تتوقف، والمجتمع الدولي يُراوح مكانه، ومع ذلك، تبقى محكمة العدل الدولية منبراً يُعيد تسليط الضوء على الجرائم، ويُمهّد الطريق لمرحلة جديدة من المساءلة، ولو بعد حين.
وربما تكون هذه الخطوة، وإن جاءت متأخرة، بداية لكسر جدار الصمت الدولي، وفضح ازدواجية المعايير، ووضع العالم أمام الحقيقة، لا سلام بلا عدالة، ولا عدالة من دون محاسبة المجرمين، مهما طال الزمن.