الوقت- في مشهد يتداخل فيه البعد الإنساني مع السياسي، والوطني مع الإقليمي، أطلقت الجمهورية اليمنية عبر وزير خارجيتها جمال عامر، واحدة من أقوى الرسائل الدبلوماسية التي وجّهت بشكل مباشر إلى المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، لإدانة ما وصفته بـ"العدوان الأمريكي السافر" على الأراضي اليمنية، تأتي هذه الرسالة في ظل تصعيد عسكري أمريكي متواصل على اليمن، يبرره المسؤولون في واشنطن برغبتهم في "حماية الملاحة الدولية" في البحر الأحمر، بينما تؤكد صنعاء أن الغارات تستهدف بُنى تحتية مدنية ومرافق حيوية، وتقع في سياق سياسي إقليمي هدفه حماية الكيان الصهيوني في حربه ضد الشعب الفلسطيني.
دعوة للتحقيق ومحاسبة دولية
في رسالته التي وُجهت إلى مجلس حقوق الإنسان، الجمعية العامة للأمم المتحدة، مجلس الأمن، المفوض السامي لحقوق الإنسان، والدول والمنظمات الدولية والإقليمية، طالب وزير الخارجية اليمني بتشكيل لجنة دولية مستقلة للتحقيق في الجرائم الأمريكية المرتكبة بحق الشعب اليمني، ووفقًا لما ورد في الرسالة، فقد شنّت الولايات المتحدة نحو ألف غارة جوية على اليمن، منذ بداية الحملة الأخيرة، استهدفت خلالها مئات المدنيين، من بينهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى منشآت خدمية ومرافق حيوية، بما فيها الموانئ، المطارات، المزارع، المنشآت الصحية، خزانات المياه، وحتى المواقع الأثرية، ومن أبرز هذه الهجمات، ما تعرض له ميناء رأس عيسى، حيث أسفر القصف الأمريكي عن استشهاد 80 مدنيًا وإصابة 150 آخرين، في واحدة من أكثر الغارات دموية، كما أشارت الرسالة إلى قصف سوق فروة الشعبي في العاصمة صنعاء، والذي أدى إلى سقوط 12 شهيداً و30 جريحًا، في حصيلة غير نهائية.
القانون الدولي وازدواجية المعايير
واحدة من أبرز النقاط التي أثارتها الرسالة اليمنية، هي الانتهاك الصارخ للقانون الدولي الإنساني من خلال استهداف فرق الإنقاذ والمسعفين، وهو أمر يُعد جريمة حرب وفقًا للمعايير الدولية، كما تساءلت صنعاء عن الازدواجية الصارخة في تعاطي المجتمع الدولي مع قضايا حقوق الإنسان، متهمةً الهيئات الأممية بالصمت، إن لم يكن التواطؤ، حيال ما يحدث في اليمن.
وقد أكد الوزير جمال عامر أن صمت المجتمع الدولي هو الذي منح الولايات المتحدة الضوء الأخضر لمواصلة عدوانها، مشيرًا إلى أن المواقف الغربية تُظهر انتقائية واضحة في تطبيق القانون الدولي، حيث يتم التعامل مع قضايا بعينها باهتمام بالغ، في حين يتم تجاهل مآسي شعوب بأكملها، مثل ما يحدث اليوم في اليمن وفلسطين.
الولايات المتحدة تدعم الكيان الصهيوني
الرسالة اليمنية لم تكن محصورة في البعد الداخلي أو الإنساني فقط، بل فتحت ملفًا سياسيًا أكثر حساسية، حين اتهمت الولايات المتحدة بأنها تستخدم اليمن كورقة ضغط لحماية الكيان الصهيوني الغاصب، وأن عملياتها العسكرية في البحر الأحمر ليست لحماية الملاحة، بل محاولة لكسر الحصار الذي تفرضه صنعاء على الاحتلال الإسرائيلي، تلك الاتهامات تأتي في ظل تزايد الترابط بين الملفين اليمني والفلسطيني، حيث ترى صنعاء أن واشنطن تحاول معاقبة اليمن بسبب موقفه الصريح والداعم للمقاومة الفلسطينية، وخاصة في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، والذي خلّف آلاف الضحايا من المدنيين.
إعادة تعريف الأولويات الدولية
تثير هذه الرسالة اليمنية تساؤلات عميقة حول طبيعة النظام الدولي، وهل هو قائم فعلًا على العدالة وحماية حقوق الإنسان، أم إنه يعمل وفقًا لمصالح القوى الكبرى فقط؟اليمن في هذه الحالة لا يطلب أكثر من فتح تحقيق محايد وشفاف، وتفعيل الآليات القانونية الدولية، وهو مطلب مشروع، لكنه في المقابل يواجه بحائط من التجاهل والإنكار، وهو ما يعيد إلى الواجهة فشل المؤسسات الدولية في حماية الضعفاء، وفضح ازدواجية الغرب في تبني قضايا الحقوق والحريات.
الصراع في البحر الأحمر
لا يمكن قراءة الرسالة اليمنية بعيدًا عن التصعيد الأمريكي في البحر الأحمر، والذي تبرره واشنطن بمحاربة "تهديدات حكومة صنعاء للملاحة الدولية"، لكن المعطيات على الأرض تكشف أن هذه "المخاوف" لا تخفي إلا محاولة أمريكية لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، وضمان أمن "إسرائيل" من خلال إضعاف أي قوة إقليمية ترفع راية المقاومة، وتُفسر صنعاء هذه التحركات الأمريكية على أنها محاولة لتطويقها عسكريًا وسياسيًا، عبر ضرب العمق اليمني وزعزعة الوضع الإنساني والاقتصادي، وبالتالي دفع القيادة اليمنية إلى التخلي عن مواقفها تجاه فلسطين.
الهجمات الأمريكية وأثرها الإنساني على اليمن
لا تقتصر آثار الهجمات الأمريكية على اليمن على البنية التحتية والمرافق الحيوية فقط، بل تمتد لتشكل كارثة إنسانية متفاقمة تهدد حياة ملايين اليمنيين، فمع كل ضربة جوية تسقط على منشأة مدنية، تتعطل خدمات أساسية لمجتمعات بأكملها، ما يؤدي إلى تدهور الوضع الصحي والمعيشي بشكل دراماتيكي، فاستهداف المنشآت الصحية يعني حرمان الآلاف من الحصول على الرعاية الطبية، وخاصة في المناطق الريفية والمناطق المحاصرة، واستهداف خزانات المياه والمزارع يؤدي إلى أزمة مياه وغذاء تهدد الأمن الغذائي للملايين، ولا سيما في بلد يعاني أصلًا من سوء تغذية مزمن، ونقص حاد في المواد الأساسية.
وعلى المستوى النفسي، فإن تكرار القصف العشوائي على الأحياء السكنية والأسواق الشعبية يُخلف أزمة نفسية جماعية، وخاصة في أوساط الأطفال الذين يشهدون يوميًا الدمار والموت، هذه الأوضاع تصعّب من جهود المنظمات الإنسانية، التي أصبحت عاجزة عن الوصول إلى المتضررين بسبب استهداف الطرق والموانئ، الرسالة اليمنية سلطت الضوء على هذه الجوانب، لكنها لم تلقَ حتى الآن ردًا فعليًا من قبل الجهات الدولية الفاعلة، بل يمكن القول إن التجاهل المتعمّد لهذا الواقع يعكس إما عجزًا دوليًا حقيقيًا، أو تواطؤًا سياسيًا يساهم في استمرار المأساة.
البعد الاستراتيجي لصمود اليمن في وجه الهيمنة الأمريكية
في الوقت الذي تتعرّض فيه اليمن لضغوط عسكرية واقتصادية هائلة، إلا أن الرسالة الأخيرة لوزير الخارجية جمال عامر تعكس مستوى عاليًا من الثبات الاستراتيجي والسياسي، يؤكد أن صنعاء لا تزال متمسكة بمواقفها الإقليمية والدينية، وخصوصًا في دعم القضية الفلسطينية، هذا الصمود لم يكن فقط مقاومة عسكرية ميدانية، بل بات أيضًا مقاومة دبلوماسية ذات طابع أخلاقي، تحاول من خلالها اليمن فضح السياسات الأمريكية التي تدّعي الدفاع عن القانون الدولي بينما تنتهكه علنًا، واليمن هنا تتحرك في ساحة سياسية معقدة، تستخدم فيها "لغة الحقوق" كأداة لمواجهة "منطق القوة"، كما أن الربط بين العدوان الأمريكي على اليمن ودعم الكيان الصهيوني يكشف عن فهم عميق للترابط الجيوسياسي في المنطقة، حيث لم تعد المعارك مجرد نزاعات محلية، بل تحوّلت إلى ساحات تنازع بين مشاريع إقليمية ودولية.
ورغم الحصار والتصعيد، لم تُظهر القيادة اليمنية أي تراجع عن مواقفها، بل إن الرسالة تحمل في طياتها تأكيدًا على أن اليمن اليوم لم يعد ضحية فحسب، بل فاعلاً إقليمياً يحاول فرض معادلة جديدة في ميزان القوى، حتى وإن كان الثمن باهظًا، وهذا البعد يعيد تعريف طبيعة الصراع في اليمن، ليس كحرب أهلية، بل كصراع سيادة وإرادة في مواجهة الهيمنة الغربية.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن رسالة وزير الخارجية اليمني هي أكثر من مجرد بيان احتجاجي، إنها إعلان سياسي متكامل الأركان، يُظهر أن اليمن يدرك جيدًا تعقيدات المشهد الإقليمي، ويمتلك أدوات التعبير الدبلوماسي، كما يمتلك إرادة التحدي والاستمرار في مواجهة القوى الكبرى، هي دعوة إلى العالم، إلى المنظمات، إلى الشعوب، بأن تنظر لما يحدث في اليمن لا كـ"أزمة محلية" أو "صراع داخلي"، بل كـ"حلقة في سلسلة من الهيمنة الدولية" تسعى إلى فرض رؤيتها بالقوة، حتى لو على حساب الدماء والكرامة الإنسانية. وفي ظل استمرار هذه الغارات، وتصاعد أعداد الضحايا، يبقى السؤال مفتوحًا، هل سيتحرك العالم لإنقاذ اليمن؟ أم سيستمر الصمت حتى يتحول المشهد اليمني إلى "نكبة" أخرى تُضاف إلى سجل المآسي العربية؟