الوقت - منذ عقود، اعتمدت "إسرائيل" على دعم واسع من الدول الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، مستندة إلى رواية إعلامية مصممة بعناية تصورها كضحية دائمة في مواجهة الفلسطينيين، غير أن العدوان الأخير على غزة كشف زيف هذه السردية، حيث بات حجم القمع والدمار لا يمكن إخفاؤه حتى في أكثر وسائل الإعلام انحيازًا لها.
في ظل هذا التراجع الملحوظ في التأييد العالمي، سارعت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى إنشاء غرفة عمليات إعلامية تهدف إلى مواجهة التغيرات المتسارعة في الرأي العام العالمي، والذي انقلب ضدها بشكل غير مسبوق، هذه الخطوة لم تكن سوى محاولة يائسة لاحتواء تداعيات ما يمكن اعتباره أكبر خسارة لـ"إسرائيل" في معركة الصورة والرأي العام، حيث فقدت الكثير من مصداقيتها أمام الشعوب، رغم استمرار دعم بعض الحكومات الغربية لها.
مع استمرار القصف الوحشي لغزة، بدا من المستحيل على أي وسيلة إعلامية إخفاء حجم الدمار والجرائم التي تُرتكب ضد المدنيين الفلسطينيين، فالمشاهد المروعة للأطفال القتلى، والمباني السكنية التي تُسوّى بالأرض، والمستشفيات الخارجة عن الخدمة بسبب الاستهداف المباشر، كلها حقائق صادمة جعلت من الصعب حتى على الإعلام الغربي المتواطئ أن يتجاهلها.
لقد باتت المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" ضد المدنيين في القطاع أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، ودفعت العديد من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الكبرى إلى إعادة تقييم تغطيتهم للأحداث، ومع تزايد التغطية الحقيقية لما يجري، أدركت "إسرائيل" أن معركتها الإعلامية أصبحت أكثر صعوبة، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة لمحاولة إعادة فرض روايتها أمام العالم.
إنشاء غرفة عمليات إعلامية: محاولة يائسة لاستعادة التأييد
في خطوة تكشف عن عمق الأزمة التي تواجهها "إسرائيل"، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، عن افتتاح غرفة حرب إعلامية في وزارة الخارجية لمراقبة النشاط المناهض لـ"إسرائيل" على منصات الإنترنت، والرد عليه سريعًا، تضم الغرفة دبلوماسيين وطلاب متخصصين في الاتصالات الدولية، مهمتهم رصد أكثر من 250 قناة إخبارية، وتحليل 10,000 مادة إعلامية يوميًا، في محاولة للسيطرة على الرأي العام عبر تصدير الرواية الإسرائيلية.
لكن هذه الجهود لا تعكس سوى حالة الذعر داخل الدوائر السياسية في تل أبيب، إذ إن الحاجة إلى تدخل بهذا الحجم تعني أن "إسرائيل" تدرك تمامًا أنها تفقد السيطرة على السردية الإعلامية العالمية، وأن صورتها كـ"الضحية" لم تعد مقنعة أمام الشعوب.
أسباب تراجع الدعم العالمي لـ"إسرائيل"
هناك العديد من العوامل التي ساهمت في انقلاب الرأي العام العالمي ضد "إسرائيل"، ومن أبرزها:
1. الوحشية المفرطة في العدوان على غزة
لم تعد الاعتداءات الإسرائيلية مجرد مواجهات عسكرية، بل أصبحت عمليات إبادة جماعية تستهدف المدنيين بشكل واضح، القصف العشوائي للمناطق السكنية، استهداف الصحفيين، تدمير المستشفيات، وحرمان السكان من الماء والكهرباء كلها مشاهد وثّقتها وسائل الإعلام، ولم يعد بالإمكان تبريرها حتى أمام أكثر المؤيدين لـ"إسرائيل".
2. الانتشار الواسع للمحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي
لم يعد الإعلام التقليدي هو المصدر الوحيد للأخبار، إذ أصبحت منصات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا حاسمًا في نشر المعلومات، فالفيديوهات والصور القادمة من غزة تُنشر على نطاق واسع، ما يجعل من المستحيل التلاعب بالسردية الإعلامية كما كان يحدث في الماضي، هذا التغيير ساهم في توعية الشعوب العالمية بحقيقة ما يجري، وأدى إلى ضغط متزايد على الحكومات الداعمة لـ"إسرائيل".
3. تصاعد حملات التضامن مع فلسطين
شهدت المدن الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا تظاهرات حاشدة دعمًا لفلسطين، في ظاهرة لم تكن بهذا الحجم من قبل، الجامعات، النقابات العمالية، وحتى بعض السياسيين بدؤوا يجهرون بمواقف مناهضة لـ"إسرائيل"، في مؤشر على التحول العميق في مواقف الشعوب تجاه القضية الفلسطينية.
4. ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع حقوق الإنسان
في الوقت الذي تدعو فيه الدول الغربية إلى حماية حقوق الإنسان في أوكرانيا، فإنها تواصل دعم "إسرائيل" رغم الجرائم المروعة التي ترتكبها ضد الفلسطينيين، هذه الازدواجية باتت واضحة للجميع، وأدت إلى فقدان الثقة في مصداقية الحكومات الغربية، وزيادة التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية.
تصاعد خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين في "إسرائيل"
مع تزايد الغضب العالمي تجاه "إسرائيل"، تصاعد في المقابل خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين داخل المجتمع الإسرائيلي، كشف تقرير "مؤشر العنصرية والتحريض 2024" عن أرقام صادمة بشأن حجم التحريض الرقمي ضد الفلسطينيين، حيث تم تسجيل أكثر من 12 مليون منشور تحريضي باللغة العبرية خلال عام واحد، بمعدل 23.6 منشورًا في الدقيقة.
ومن بين هذه المنشورات، تم توثيق آلاف الرسائل التي تعبر عن الفرح والشماتة بمقتل الفلسطينيين، في ظاهرة تعكس تطبيع العنف في المجتمع الإسرائيلي. هذه البيانات كشفت عن الوجه الحقيقي للعنصرية الإسرائيلية، وساهمت في زيادة الغضب الدولي تجاه سياسات الاحتلال.
المعركة الإعلامية: هل يمكن لإسرائيل استعادة مصداقيتها؟
رغم الجهود الإسرائيلية المكثفة لتغيير الصورة السلبية المتنامية عنها، إلا أن الحقائق على الأرض تجعل هذه المهمة شبه مستحيلة، فالقوة الإعلامية الإسرائيلية، التي كانت تعتمد على السيطرة على الرواية من خلال اللوبيات والمنافذ الإعلامية المتحيزة، باتت تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة في عصر الإعلام الحر والتواصل الاجتماعي.
لم يعد بالإمكان إخفاء المجازر الجماعية خلف عناوين خادعة، ولم تعد الأكاذيب كافية لتبرير قتل الأطفال وهدم المستشفيات، لقد خسر الكيان الصهيوني في الرأي العام العالمي أكثر مما خسر في ساحة المعركة، وهذا التحول يمثل واحدة من أكبر الأزمات التي تواجهها "إسرائيل" منذ عقود.
لم يعد بإمكان "إسرائيل"، مهما كثّفت جهودها الدعائية، أن تستعيد مصداقيتها المفقودة أمام العالم، فالمجازر التي ارتكبتها في غزة كشفت زيف سرديتها، وأدت إلى تآكل دعمها الشعبي حتى في الدول التي كانت تُعتبر حليفتها التقليدية، إن إنشاء غرفة عمليات إعلامية، وإطلاق حملات مضادة، واستثمار الملايين في تحسين صورتها، لن يغير حقيقة أن "إسرائيل" باتت في مواجهة مباشرة مع رأي عام عالمي أكثر وعيًا وإنصافًا للقضية الفلسطينية.
إن الخسارة التي مُنيت بها "إسرائيل" على مستوى الرأي العام تفوق بكثير أي مكاسب عسكرية مؤقتة، فقد أصبح العالم يرى الحقيقة دون تزوير أو تحريف، ومع استمرار هذا التحول، تبدو "إسرائيل" متجهة نحو عزلة دولية متزايدة، حيث لم يعد بإمكانها إقناع الشعوب بكونها "الضحية"، في وقت تُظهر فيه أفعالها أنها الجلاد.