الوقت- منذ بدء العدوان على غزة في أكتوبر 2023، فرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا شاملاً على القطاع، متبعًا سياسة التجويع الجماعي كسلاح حرب. لم يكتفِ الاحتلال بالقصف والتدمير الممنهج، بل حوّل الغذاء والدواء والماء إلى أدوات ابتزاز وعقاب جماعي، مما أدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة تهدد حياة أكثر من 2.3 مليون فلسطيني.
حكومة الاحتلال الاسرائيلي لم تكن يومًا معنية بحياة الفلسطينيين، بل على العكس، تعتبر استمرار معاناتهم ورقة ضغط لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية. ولعل ما يحدث اليوم في غزة ليس سوى امتدادٍ لتاريخ طويل من استخدام سلاح الحصار والتجويع ضد الفلسطينيين، خصوصًا مع حملات الاحتلال المستمرة لمحاربة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تعد العمود الفقري للحياة في الأراضي المحتلة.
معاناة غزة تحت الحصار: كارثة إنسانية تتفاقم
1. الأطفال الضحايا الأوائل
يُعتبر الأطفال الفئة الأكثر تضررًا من الحصار وقطع المساعدات. بسبب نقص الغذاء وانتشار سوء التغذية الحاد، أصبح الأطفال في غزة يواجهون المجاعة الحقيقية، حيث فقد العديد منهم حياتهم نتيجة الجوع أو نقص الحليب والأدوية.
تقارير منظمات الإغاثة الدولية تؤكد أن أكثر من نصف سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن الأطفال يموتون نتيجة الجفاف الحاد، حيث لا تتوفر مياه صالحة للشرب بعد تدمير البنية التحتية وانقطاع الإمدادات.
2. الأمراض القاتلة تتفشى
مع انهيار النظام الصحي، باتت غزة بيئة خصبة لانتشار الأمراض والأوبئة. نقص المياه النظيفة، وغياب الصرف الصحي، وانعدام اللقاحات والأدوية، جعل أمراضًا مثل الكوليرا والتيفوئيد تنتشر بشكل مخيف. مرضى السكري وأمراض القلب والسرطان محرومون من العلاجات الأساسية، حيث تم منع دخول الإمدادات الطبية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الوفيات بشكل ملحوظ.
3. انهيار المستشفيات وانقطاع الكهرباء
تم استهداف المستشفيات بشكل مباشر بالقصف أو الحصار، مما أدى إلى توقف أكثر من 70% منها عن العمل كليًا أو جزئيًا. مع انقطاع الكهرباء ومنع الوقود، توقفت أجهزة التنفس الاصطناعي وحاضنات الأطفال، مما أدى إلى وفاة العديد من المرضى، خاصة الأطفال الخدّج وكبار السن.
تاريخ طويل من التجويع والحصار
1. استهداف الأونروا: القضاء على شريان الحياة للفلسطينيين
الأونروا، التي أُسست عام 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، كانت دائمًا هدفًا لحملات إسرائيلية تهدف إلى تقليص دورها وحتى إنهائها بالكامل. الاحتلال يعتبر وجود الأونروا دليلاً على استمرار معاناة الفلسطينيين، لذا يسعى بشكل مستمر إلى تقويض عملها، سواء عبر الضغط على الدول المانحة لوقف تمويلها أو من خلال شنّ حملات دعائية تتهمها بالتحريض ودعم "الإرهاب".
في 2024، وبعد مزاعم إسرائيلية غير موثوقة بأن بعض موظفي الأونروا كانوا على صلة بحركة حماس، أوقفت الولايات المتحدة ودول غربية تمويلها للمنظمة، مما أدى إلى شلّ عملياتها، وترك أكثر من 1.7 مليون لاجئ فلسطيني في غزة دون مساعدات غذائية أو طبية.
2. حصار غزة: استراتيجية عقاب جماعي مستمرة منذ 2007
منذ فرض الحصار الشامل على غزة عام 2007، استخدمت إسرائيل المساعدات الإنسانية كورقة ضغط دائمة. كانت تتحكم في إدخال المواد الغذائية والوقود وفقًا لحسابات سياسية، وأحيانًا تسمح بدخول كميات قليلة لتهدئة الضغوط الدولية، لكنها تبقى غير كافية لمنع حدوث مجاعة بطيئة.
في الحروب السابقة على غزة (2008-2009، 2012، 2014، 2021)، اتبعت حكومة الاحتلال النهج نفسه: تدمير البنية التحتية، استهداف المستشفيات، منع المساعدات، ثم التفاوض على دخولها بشروطها.
3. منع المساعدات في الضفة الغربية
الأمر لا يقتصر على غزة، ففي الضفة الغربية أيضًا، تمنع إسرائيل المساعدات عن الفلسطينيين، وتعرقل المشاريع الإنسانية التي تموّلها المنظمات الدولية. كثير من القرى الفلسطينية في مناطق "ج" محرومة من الماء والكهرباء، وإسرائيل تمنع دخول أي مساعدات بحجة أنها "غير قانونية".
موقف المجتمع الدولي: تواطؤ بصمت مخزٍ
رغم المشاهد المروعة للمجاعة والجثث المنتفخة بسبب الجوع في غزة، فإن رد الفعل الدولي لا يزال ضعيفًا ومخيبًا للآمال.
* الأمم المتحدة تصدر بيانات تنديد، لكنها عاجزة عن فرض أي عقوبات على إسرائيل.
* الولايات المتحدة ودول أوروبية تدّعي القلق بشأن الأزمة الإنسانية، لكنها تستمر في دعم إسرائيل عسكريًا وسياسيًا، بل وتساهم في خنق الأونروا بقطع التمويل عنها.
* الدول العربية بين متواطئ بالصمت، أو محاصر بتهديدات الغرب، مع بعض الجهود الرمزية التي لم تغيّر من الواقع شيئًا.
إسرائيل تدرك أنها محصّنة ضد العقوبات، لذلك تستمر في استخدام سياسة التجويع كأداة إبادة بطيئة، دون خشية من أي محاسبة دولية.
جرائم حرب بلا عقاب
وفقًا لاتفاقيات جنيف، فإن منع المساعدات الغذائية والطبية عن المدنيين يُعتبر جريمة حرب، ومع ذلك، فإن إسرائيل تمارس هذه الجريمة بوضوح دون أي رد فعل دولي حازم. حتى محكمة العدل الدولية، رغم تحذيراتها لإسرائيل، لم تستطع فرض أي إجراءات فورية لإنقاذ سكان غزة من المجاعة.
الاحتلال لا يخشى القانون الدولي لأنه يعلم أن القوى الكبرى لن تحاسبه، ولهذا يستمر في سياسة الحصار والتجويع دون رادع.
الخاتمة: هل سينتصر الجوع على إرادة الفلسطينيين؟
تاريخ إسرائيل في استخدام المساعدات كسلاح حرب يؤكد أنها تسعى إلى إبادة الفلسطينيين بطرق مختلفة، سواء بالقصف أو التجويع أو منع العلاج. غزة اليوم تعيش أسوأ كارثة إنسانية في تاريخها، بينما العالم يكتفي بالمشاهدة.
لكن رغم كل ذلك، لم تنكسر إرادة الفلسطينيين، ولم تفلح سياسة التجويع في تحقيق أهدافها، تمامًا كما فشلت كل الحروب الإسرائيلية في إنهاء القضية الفلسطينية. السؤال الحقيقي الآن: هل سيستمر العالم في تجاهل هذه الجريمة، أم أن هناك حدًا لمعاناة غزة سيجبر الجميع على التحرك؟