الوقت - تعيش سوريا في الآونة الأخيرة أحلك فصول تاريخها المعاصر، فمنذ الأسبوع المنصرم، تحولت المناطق الجنوبية إلى بؤرة اضطرابات متصاعدة، لتمتد الشرارة حالياً وتلتهم الشريط الساحلي والغربي للبلاد بأكمله.
في تقرير حصري أدلى به أحد خبراء مراقبة النزاع السوري لقناة الجزيرة، فإن المواجهات الدامية بين القوات السورية المستحدثة والعناصر المسلحة الموالية لبشار الأسد خلال اليومين الماضيين، قد أسفرت عن سقوط ما لا يقل عن 147 ضحية، مسجلةً بذلك أعنف فصول الصراع الدموي منذ تداعي أركان نظام الأسد في البلاد.
شرارة الاشتباكات
أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، المتخذ من بريطانيا مقراً له والمعني برصد تطورات المشهد السوري، بأن فتيل المواجهات اشتعل عصر يوم الخميس إثر مصرع 16 من منتسبي الأجهزة الأمنية الحكومية في ريف اللاذقية على أيدي المناوئين لسلطة الجولاني، وتُعد هذه الواقعة الأكثر دمويةً في سلسلة الهجمات التي استهدفت القوات السورية الجديدة منذ تسلمها زمام الأمور في دمشق.
وتكشف المشاهد المروعة التي وثقتها عدسات وكالة رويترز، عن جثامين ما لا يقل عن 20 ضحية سقطوا تحت وابل من الرصاص في قرية المختارية ذات الغالبية العلوية، والواقعة على مسافة 12 ميلاً شرق عاصمة محافظة اللاذقية، حيث تظهر بقع الدماء القانية المحيطةً بالجثامين في مشهد يعكس فداحة المأساة.
الاضطراب يمتد من الجنوب إلى الشريط الساحلي الغربي: سوريا على صفيح ساخن
تكشف التقارير الواردة من المناطق المضطربة، أن غالبية قاطني طرطوس واللاذقية قد آثروا الاحتماء بمنازلهم خلال الأيام المنصرمة، في ظل مشهد مروع تتجول فيه القوافل العسكرية بشوارع المدينتين، بينما تنتشر العناصر الأمنية التابعة للجولاني في أرجاء المدينة مطلقةً الرصاص في الطرقات، ولا تزال رقعة الاشتباكات تمتد على امتداد أجزاء واسعة من الساحل الغربي، حيث يبدو أن الأوضاع الأمنية تشهد تدهوراً متسارعاً في المنطقة الساحلية الغربية لسوريا، المعروفة بكونها معقلاً تاريخياً للطائفة العلوية.
وفي تغطية حصرية، نقلت شبكة العربي، استناداً إلى مصادر ميدانية، تفاصيل الاشتباكات العنيفة التي تدور رحاها بين قوات الأمن المنتمية للحكومة المؤقتة السورية وقوات "درع الساحل" في محيط مستشفى ابن سينا باللاذقية في الساحل السوري الغربي، وأكدت القناة التلفزيونية أن قوات "درع الساحل" قد دشّنت هجوماً واسع النطاق ضد القوات الموالية للجولاني، رئيس الحكومة المؤقتة السورية.
وفي بيان لافت نُشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، خاطبت كتيبة "درع الساحل"، إحدى الفصائل المناوئة لحكومة الجولاني، السلطات الحاكمة بلهجة تحذيرية قائلةً: "استهدفنا بدقة مواقعكم العسكرية وأرتالكم وقمنا بتدميرها، وأوقعنا العشرات من عناصركم بين قتيل وأسير، في حين انتهجتم أسلوباً جباناً باستهداف الفئات الأكثر هشاشةً من النساء والأطفال والشيوخ، مرتكبين مجازر ستظل وصمة عار في جبين التاريخ".
وأردفت الكتيبة في خطابها المتحدي للحكومة المؤقتة: "ما شهدتموه من ردنا لم يكن سوى القطرة الأولى في بحر الانتقام، أما بعد الفظائع التي اقترفتموها اليوم بحق الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن، فإننا نتعهد أمام الله والتاريخ أن يكون ردنا القادم مزلزلاً ومضاعفاً، ولو كلفنا ذلك أرواحنا وفلذات أكبادنا".
وفي تطور مأساوي آخر، أفادت شبكة العهد العراقية بتصفية "الشيخ عبد الرحمن الضلع" على أيدي العناصر الأمنية التابعة للحكومة المؤقتة السورية، مشيرةً إلى أن هذا العالِم السُنّي البارز كان قد رفع صوته عالياً في وقت سابق، منتقداً ومستنكراً عمليات التطهير العرقي المنهجية التي تمارسها السلطات الحاكمة ضد أبناء الطائفة العلوية.
وفي مشهد يعكس امتداد رقعة الاضطرابات، أفادت مصادر محلية بوقوع انفجار عنيف في محيط المستشفى الوطني بمدينة السويداء جنوب سوريا، تزامناً مع دوي أصوات إطلاق نار كثيف، ما ينذر بتوسع دائرة العنف لتشمل مناطق جديدة في البلاد.
الاحتلال يتمدد جنوباً بالتزامن مع الاقتتال الداخلي: سوريا بين فكي كماشة
تتصاعد وتيرة الصراعات الداخلية الدامية في سوريا، في مشهد مأساوي يتزامن مع تعرض الجنوب الغربي للبلاد، وتحديداً المناطق ذات الغالبية الدرزية، لموجات متعاقبة من الاعتداءات والتوغلات الاحتلالية المنهجية على يد القوات الصهيونية خلال الشهور المنقضية، فقد أحكم الكيان الإسرائيلي سيطرته على مساحات شاسعة من هضبة الجولان، متوغلاً في عمق النسيج الجغرافي السوري.
وتكشف التقارير الاستخباراتية والميدانية عن عمليات توغل بري مدروسة نفذتها الوحدات العسكرية الإسرائيلية، مقترنةً بسلسلة من الأعمال العدوانية تجسدت في تدمير ممنهج للمنشآت والقواعد العسكرية التابعة للدولة السورية في ريف القنيطرة، بالتوازي مع شنّ سلسلة غارات جوية استهدفت المستودعات الإستراتيجية والمرافق العسكرية التابعة للجيش السوري، وفي تطور خطير، تتداول بعض المصادر الإعلامية معلومات تفيد بوصول طلائع القوات الإسرائيلية إلى نقاط لا تبعد سوى خمسة كيلومترات عن أطراف العاصمة دمشق.
يتستر الکيان الإسرائيلي خلف ستار من الذرائع الواهية، مدعياً أن تحركاته تندرج ضمن استراتيجية دفاعية تهدف إلى استباق أي تهديد أمني محتمل قد يستهدف حدوده، وبالأخص في مرتفعات الجولان المحتلة. ويروج المحللون الإسرائيليون لفرضية مفادها بأن تل أبيب تتوجس خيفةً من تداعيات الفراغ السياسي والأمني المتفاقم في سوريا، في أعقاب انهيار نظام بشار الأسد.
غير أن الوقائع الميدانية المتسارعة منذ لحظة إعلان سقوط حكومة الأسد، تكشف عن أجندة تتخطى بمراحل حدود هذه المزاعم المعلنة، فالمشهد الراهن يعكس حقيقةً مفزعةً تتمثل في تمدد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب السوري بوتيرة متسارعة وبحرية مطلقة، في ظل غياب صارخ لأي موقف حازم أو إجراء رادع من قبل السلطة الجديدة في دمشق إزاء ابتلاع أجزاء استراتيجية من الأراضي السورية على يد القوات الصهيونية خلال الفترة الأخيرة، ما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة التفاهمات الخفية التي قد تكون أبرمت بعيداً عن الأضواء.
خلفيات الصراع الداخلي
في تحليل لديناميات الصراع المشتعل في الغرب السوري، يكشف "العقيد إسماعيل أيوب"، الخبير العسکري، في حديثه لموقع الخليج أونلاين، أن الغالبية العظمى من المناوئين لسلطة جولاني الحالية، ينحدرون من صفوف النخب العسكرية والأمنية التي شكّلت العمود الفقري لنظام بشار الأسد، ويتمتعون برصيد وافر من الخبرات القتالية والتكتيكات الميدانية المتراكمة، ما يمنحهم تفوقاً ملموساً في ساحات المواجهة، وعلى الرغم من هذا المشهد المعقد، يمكن استقراء ثلاثة محاور رئيسية تقف وراء تصاعد موجة الاحتجاجات المتفجرة في أرجاء سوريا:
الانهيار الاقتصادي غير المسبوق
في أعقاب تداعي أركان نظام بشار الأسد، شهدت البنية الاقتصادية السورية انهياراً كارثياً لم يسبق له مثيل، وعلى الرغم من الوعود البرّاقة والخطاب المعسول الذي أطلقه الجولاني مراراً وتكراراً بشأن إحداث نقلة نوعية في المشهد المعيشي للمواطن السوري، أصدرت الهيئة الأممية المختصة تقريراً مفزعاً يحذّر من القفزات الصاروخية غير المسبوقة في أسعار السلع الغذائية الأساسية، والشح الخطير في مادتي القمح والدقيق الاستراتيجيتين.
ويؤكد التقرير الأممي أن حالة الفوضى والاضطرابات الداخلية، قد ألقت بظلالها القاتمة على سلسلة إمدادات القمح وإنتاج الخبز، ما يشكّل تهديداً وجودياً للأمن الغذائي والاستقرار المجتمعي، كما يسلط التقرير الضوء على التضخم الجامح في تكاليف المعيشة والنقص الحاد في المواد الغذائية الأساسية، مشيراً إلى التراجع الدراماتيكي في معدلات إنتاج القمح في الحزام الزراعي الممتد في شمال غرب سوريا، وخاصة في محافظتي إدلب وحماة اللتين كانتا تشكلان سابقاً سلة غذاء سوريا.
دوامة العنف والفوضى الأمنية
تجسّد الاشتباكات المتصاعدة في أرجاء سوريا، الوجه الأبرز لحالة الانفلات الأمني المستشري في البلاد، وعلى النقيض من التعهدات الرنانة التي أطلقها الجولاني بإرساء دعائم الاستقرار الأمني، فإن موجات العنف المتلاحقة قد أفضت إلى تدهور الأوضاع بصورة كارثية غير مسبوقة.
فقبل فترة وجيزة، كشفت مصادر استخباراتية النقاب عن قيام عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي، بتنفيذ عملية خطف جماعية استهدفت أكثر من 130 شخصاً ينتمون إلى أقليات عرقية ودينية في مناطق متفرقة من النسيج السوري، وحسب المعلومات الموثقة، فقد بثت المنابر الإعلامية المرتبطة بالتنظيم الإرهابي، سلسلةً من الصور والمقاطع المصورة توثّق عملية اختطاف 130 مواطناً سورياً، من بينهم كوادر عسكرية، ينتمون جميعهم إلى أقليات، وخاصةً الطائفة العلوية، مع إطلاق تهديدات صريحة بتصفيتهم.
وفي سياق متصل، قامت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الحاكمة في دمشق، بشنّ حملات عسكرية مكثفة على المناطق الساحلية الغربية، ما أدى إلى تأجيج بؤر التوتر وتعميق الشرخ المجتمعي، ويأتي هذا في مفارقة صارخة، حيث كانت أبواق الجولاني تكيل الاتهامات سابقاً لنظام بشار الأسد بزعزعة الأمن، في حين أخفقت حكومته إخفاقاً ذريعاً خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة في تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الأمني، بل إن سياساتها المرتجلة قد أفضت إلى تفاقم دوامة العنف والفوضى في أرجاء سوريا المنكوبة.
القبضة الحديدية والقمع الممنهج
انتهجت السلطات الحاكمة في مواجهة الاحتجاجات المتصاعدة، سياسة القمع الحديدي والكبت الممنهج، وخلال موجة الاحتجاجات الأخيرة، وقعت الطائفة العلوية تحت وطأة حملات استهداف منظمة وضغوط هائلة.
يبرز "غياث سليمان دلا" في المشهد الراهن كقائد كاريزمي للعلويين المضطهدين، رافعاً راية التحدي ومتعهداً بتحرير الوطن من براثن نظام جولاني القمعي، وقد أزهقت أرواح أكثر من مئة مواطن سوري علوي في الأيام القليلة الماضية، نتيجةً للقمع الوحشي الذي تمارسه قوات الجولاني، ومن المرجح أن تصاعد وتيرة العنف والقمع سيؤدي حتماً إلى اتساع دائرة السخط الشعبي، وتعميق الفجوة بين السلطة والمجتمع، ما ينذر بدخول البلاد في دوامة جديدة من الصراع المستعر.