الوقت - في ظل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب الأخيرة على غزة، تتصدر مشروعات إعادة الإعمار المشهد السياسي، وسط تساؤلات حول طبيعة هذه المبادرات وأهدافها الحقيقية، وبينما تبدو الحاجة إلى إعادة الإعمار أمرًا ملحًا لإنقاذ السكان من الظروف القاسية التي يعيشونها بين الأنقاض، فإن شروط بعض الأطراف الفاعلة تثير مخاوف جدية حول نواياها الفعلية، فهل إعادة إعمار غزة مشروع إنساني، أم ورقة ضغط لنزع سلاح المقاومة الفلسطينية وإخضاع القطاع سياسيًا؟
مع انتهاء الحرب، بدأت تتكشف ملامح "الخطة العربية" لإعادة إعمار غزة، وهي خطة تتكون من ثلاث مراحل وتقدر تكلفتها الإجمالية بحوالي 53 مليار دولار، وفق تصريحات المندوب الدائم للجامعة العربية بالأمم المتحدة، في المرحلة الأولى، سيتم التركيز على إزالة الأنقاض وبناء مساكن مؤقتة، بينما تشمل المراحل التالية عمليات إعادة الإعمار الكاملة وضمان عدم تدمير ما سيتم بناؤه.
ورغم أن هذه الخطط تبدو إنسانية في ظاهرها، إلا أن بعض التصريحات والتحركات تكشف عن شروط تعجيزية تفرضها الأطراف الداعمة، وعلى رأسها رفض وجود حماس أو أي فصيل مسلح في غزة كشرط أساسي للبدء في إعادة الإعمار، هذا الموقف، الذي تم تسريبه في عدة مناسبات، يعكس رغبة في فرض وصاية سياسية على القطاع، حيث تتجه بعض القوى الإقليمية والدولية إلى اعتبار إعادة الإعمار فرصة لنزع سلاح المقاومة وفرض سلطة سياسية جديدة على القطاع، تتماشى مع المصالح الإسرائيلية والأمريكية.
الإعمار مقابل نزع السلاح.. سياسة الابتزاز
أثارت التصريحات الأخيرة للإعلامي المصري عماد الدين أديب جدلًا واسعًا، حيث أكد أن "التعمير دون تهجير مرتبط أساسًا بأن تكون لمن يدفع أموال الإعمار كلمة سياسية في مستقبل غزة"، بكلمات أخرى، الجهات الممولة للإعمار تريد السيطرة على القطاع، وتطالب بمشاركة مباشرة في تحديد مستقبله السياسي، كما ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال: "إذا أصرت حماس على سلاحها، فلا إعمار في غزة"، وهو ما يعكس بوضوح سياسة الابتزاز السياسي التي يتم فرضها على الفلسطينيين.
هذه التصريحات، التي تزامنت مع قمة عربية مصغرة في الرياض، تكشف أن بعض القوى الإقليمية قد تبنت مقاربة تتطابق إلى حد كبير مع الرؤية الإسرائيلية، والتي تسعى إلى تجريد غزة من أي قدرة على المقاومة، ويأتي هذا بالتزامن مع مقترحات أمريكية، تبناها الرئيس السابق دونالد ترامب، تدعو إلى تهجير سكان غزة كحل نهائي للصراع، وهو ما رفضته مصر والأردن ودول أخرى، إلا أن البديل المطروح الآن يتمثل في إعادة الإعمار المشروطة.
الفلسطينيون بين الأنقاض.. والرفض المطلق للتنازل عن المقاومة
رغم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الحصار، إلا أنهم يدركون جيدًا أن إعادة الإعمار ليست هدية مجانية، بل هي مشروع سياسي يسعى إلى تصفية قضيتهم أو تقليم أظافر المقاومة، فمنذ عقود، تم تدمير غزة وإعادة إعمارها عدة مرات، لكن في كل مرة كانت "إسرائيل" تعيد قصف البنية التحتية، وتعود غزة إلى نقطة الصفر، ما يؤكد أن المشكلة ليست في عملية الإعمار بحد ذاتها، بل في الاحتلال الإسرائيلي وسياساته التوسعية.
لذلك، يرفض الفلسطينيون المساومة على سلاح المقاومة مقابل إعادة الإعمار، لأنهم يدركون أن الاستسلام لهذه الشروط سيجعلهم مجرد سكان يعيشون تحت رحمة القوى الإقليمية والدولية، دون أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم، فالفلسطيني الذي فقد منزله لا يزال يرى أن كرامته وحقه في النضال أهم من بناء جدران قد تُهدم مجددًا في أي عدوان إسرائيلي قادم.
إعادة الإعمار.. بين الإنسانية والاستغلال السياسي
من الناحية الأخلاقية، يُفترض أن تكون إعادة إعمار غزة مشروعًا إنسانيًا خالصًا، يهدف إلى تخفيف معاناة السكان الذين تعرضوا للقصف والدمار والتشريد، لكن الواقع يكشف أن هناك من يسعى لاستغلال الإعمار كأداة للضغط السياسي، في محاولة لفرض تغييرات جذرية على المشهد الفلسطيني، سواء من خلال إخراج حماس من المشهد، أو فرض سلطة موالية للممولين، أو ضمان عدم وجود مقاومة مستقبلية.
وهنا يبرز السؤال: هل يمكن للفلسطينيين قبول إعادة الإعمار بشروط تمس حقهم في المقاومة؟ الإجابة، كما يبدو من تصريحات القيادات الفلسطينية والشعب نفسه، هي رفض قاطع لأي محاولة لانتزاع حقهم في الدفاع عن أنفسهم، حتى لو كان الثمن استمرار العيش بين الأنقاض، فبالنسبة لهم، الإعمار الحقيقي لا يكون فقط ببناء المباني، بل بضمان حقوقهم وحريتهم، بعيدًا عن أي وصاية خارجية.
ما يُحاك لغزة في الغرف المغلقة ليس مجرد مشروع لإعادة الإعمار، بل هو مخطط سياسي يسعى إلى تغيير هوية القطاع وتصفية قضيته، لكن التاريخ أثبت أن الشعب الفلسطيني لا يقبل التنازل عن حقوقه، حتى في أحلك الظروف، فكما صمد في وجه الحصار والعدوان، سيواصل النضال للحفاظ على سيادته، ولن يسمح بأن يكون الإعمار على حساب كرامته وسلاحه وحقه في تقرير مصيره.