الوقت- في مشهد سياسي مريب ومثير للقلق، شهدت العاصمة التركية أنقرة لقاءً بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس ما تسمى "الحكومة الانتقالية السورية أحمد الشرع"، هذا اللقاء، الذي تم الترويج له كخطوة نحو الاستقرار في سوريا، لا يعكس سوى محاولات أنقرة المستمرة لفرض وصايتها على البلاد، وتعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي، على حساب الشعب السوري وسيادته الوطنية.
أردوغان... أطماع استعمارية تحت غطاء "التعاون"
منذ بداية الحرب في سوريا، لم تدخر تركيا جهدًا في زعزعة الاستقرار داخل هذا البلد، مستخدمة مختلف الأدوات السياسية والعسكرية لتحقيق مصالحها التوسعية، من دعم الجماعات المتطرفة، إلى احتلال أجزاء واسعة من الشمال السوري، تحولت أنقرة إلى لاعب رئيسي في تفكيك وحدة سوريا، وتحقيق أجنداتها الخاصة، متخفية خلف شعارات زائفة حول "حماية الأمن القومي التركي" و"مكافحة الإرهاب".
الآن، وبعد سنوات من استغلال الوضع السوري، يتضح أن طموحات أردوغان لا تقتصر على مجرد فرض نفوذ سياسي، بل تتعداها إلى السيطرة على الاقتصاد السوري، والتحكم في القرار الأمني والعسكري لدمشق، فإرسال طائرته الخاصة لنقل أحمد الشرع إلى أنقرة ليس سوى إشارة واضحة على أنه يريد تحويل ما تسمى "الحكومة الانتقالية السورية" إلى مجرد دمية تحركها أنقرة حسب مصالحها.
الشرع.... عمالة لأنقرة
أحمد الشرع، الذي يفترض أن يكون ممثلًا لتطلعات الشعب السوري، لم يظهر في هذا اللقاء إلا كأداة جديدة بيد أنقرة، فمنذ اللحظة الأولى، كانت أولوياته منصبة على تمتين العلاقة مع تركيا، لا على تحقيق استقلال سوريا أو الحفاظ على وحدة أراضيها، فبدلًا من التحدث عن إنهاء الاحتلال التركي للأراضي السورية، انخرط الشرع في الترويج لرؤية أنقرة، وكأن سوريا مجرد ولاية عثمانية جديدة تحت حكم أردوغان.
لقد أظهر اللقاء أن الشرع لا يعبر عن تطلعات الشعب السوري، بل عن مصالح الأتراك، حيث تحدث عن "أهمية التعاون الاستراتيجي مع تركيا"، متجاهلًا تمامًا أن أنقرة تحتل أراضي سورية، وتدعم الميليشيات التي نهبت ودمرت مدنًا وبلدات سورية، وتستخدم اللاجئين كورقة ضغط سياسي ضد أوروبا والعالم.
القواعد العسكرية... احتلال مقنع أم وصاية مباشرة؟
وفقًا لما تم تسريبه من الاجتماع، فإن تركيا ستقيم عدة قواعد عسكرية في سوريا، وستتولى طائراتها المسيّرة مراقبة المجال الجوي السوري، ما يعني أن السيادة السورية ستصبح مجرد سراب، هذا التطور ليس مجرد تعاون أمني، بل هو امتداد للاحتلال التركي، ومحاولة لجعل الوجود العسكري التركي أمرًا دائمًا، كما فعلت أنقرة سابقًا في شمال قبرص.
إن هذه الخطوات تُظهر بوضوح أن تركيا لا تسعى إلى دعم استقرار سوريا، بل إلى فرض وصايتها السياسية والعسكرية، وإبقاء دمشق رهينة لقرارات أردوغان، ومن المؤسف أن الشرع بدلًا من الوقوف ضد هذه التحركات، يبدو أنه أصبح جزءًا منها، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول ولائه ومواقفه السياسية.
الاقتصاد السوري في قبضة أنقرة
لم يكتفِ أردوغان بالتدخل العسكري، بل يخطط أيضًا للسيطرة على الاقتصاد السوري، فمن خلال دعم الشركات التركية للهيمنة على الأسواق السورية، وفرض اتفاقيات تجارية تخدم أنقرة، تحاول تركيا أن تجعل دمشق تعتمد اقتصاديًا عليها، ما سيمنحها تأثيرًا طويل الأمد على مستقبل البلاد، وما يزيد الأمر خطورة هو أن تركيا تُقدّم نفسها كمنقذ اقتصادي لسوريا، بينما في الواقع، هي من ساهمت في تدمير الاقتصاد السوري من خلال تهريب الموارد، ودعم الجماعات المسلحة التي نهبت البنية التحتية، وتحويل المناطق المحتلة إلى أسواق تابعة للاقتصاد التركي.
مستقبل مظلم تحت الهيمنة التركية
اللقاء بين أردوغان والشرع لا يمكن قراءته إلا ضمن سياق تحويل سوريا إلى محمية تركية جديدة، فبين الدعم العسكري، والسيطرة الاقتصادية، والتمدد الأمني، تسعى أنقرة إلى فرض نفسها كحاكم فعلي لدمشق، ومن المثير للقلق أن الشرع، بدلًا من الوقوف في وجه هذه الهيمنة، يبدو أنه يمهد لها الطريق، ما يجعله شريكًا في إضعاف بلاده.
لقد عانت سوريا لسنوات طويلة من التدخلات الخارجية، ودفعت ثمنًا باهظًا بسبب الطموحات الإقليمية لأنقرة وغيرها، واليوم، بينما يتظاهر أردوغان بأنه يسعى إلى السلام، فإنه في الواقع يعزز قبضة بلاده على سوريا، ويحولها إلى ساحة نفوذ تركية جديدة.
أردوغان: "حامي الإرهاب" الذي يدّعي محاربته
منذ بداية الأزمة في سوريا، كانت تركيا في طليعة الدول التي احتضنت الجماعات المسلحة والمتطرفة، وقدّمت لها الدعم اللوجستي والعسكري، بل سهّلت دخول عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب عبر حدودها، واليوم، يأتي أردوغان ليتحدث عن "محاربة الإرهاب" في سوريا! أي إرهاب يتحدث عنه؟ الإرهاب الذي دعمه وسهّل انتشاره؟ أم الإرهاب الذي استخدمه كأداة ضغط ضد دمشق لفرض شروطه السياسية؟
تركيا لم تكن يومًا ضحية للإرهاب في سوريا، بل كانت الراعي الأول له، مستغلة وجود تنظيمات كـ"داعش" و"النصرة" لتبرير تدخلها العسكري وإقامة ما يُشبه الإدارة التركية في المناطق السورية المحتلة، والآن، تحاول أنقرة تصوير نفسها على أنها شريك في استقرار سوريا، بينما الحقيقة أنها تعمل على تثبيت وجودها العسكري لأطول فترة ممكنة، تمامًا كما فعلت في شمال قبرص.
في الختام، ما يحدث اليوم هو أخطر من مجرد تعاون سياسي بين تركيا والحكومة الانتقالية، إنه محاولة ممنهجة لتحويل سوريا إلى دولة تابعة لأنقرة. فتركيا، التي لم تتوقف عن استهداف سوريا خلال السنوات الماضية، تريد اليوم تحقيق ما فشلت في تحقيقه عسكريًا، عبر أدوات سياسية وأمنية واقتصادية.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرحه كل سوري إلى متى ستبقى سوريا رهينة للمشاريع التركية؟ وكيف يمكن السماح لشخصيات مثل أحمد الشرع بأن تكون ممثلًا لمستقبل البلاد بينما هي لا تملك الجرأة حتى على مطالبة تركيا بالخروج من الأراضي السورية؟
يجب على جميع القوى الوطنية في سوريا أن تدرك أن تركيا لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها، وأن كل ما تفعله في سوريا هو جزء من مخطط طويل الأمد لفرض هيمنتها على المنطقة، إذا لم يكن هناك موقف حازم ضد هذا المشروع، فإن سوريا لن تخسر فقط سيادتها، بل ستجد نفسها مستعمرة جديدة لأنقرة، كما كانت في زمن العثمانيين.
اليوم، لا يكفي الحديث عن مواجهة المخطط التركي، بل يجب اتخاذ خطوات عملية لقطع الطريق أمام أي محاولة لجعل سوريا رهينة لتركيا، وعلى الشعب السوري أن يرفض أي اتفاقيات أو ترتيبات تجعل من بلاده مجرد تابع لأنقرة، فالتاريخ أثبت أن من يثق في تركيا، يجد نفسه في النهاية مجرد ورقة محروقة في لعبة المصالح التركية.