الوقت - ما فتئت السياسة الخارجية التي ينتهجها ترامب في التعاطي مع القضايا الدولية، تنضح بروح المتاجرة والهيمنة الاستعمارية، وتتبدى هذه الرؤية المؤسسة على المنافع الذاتية والصفقات التجارية، جليةً في مقاربته لملفات خليج المكسيك وقناة بنما وغرينلاند، فبدلاً من استلهام الأبعاد التاريخية أو مراعاة الاعتبارات الإنسانية أو الالتزام بالأطر القانونية، يستشرف في هذه القضايا فرص للكسب المادي والمتاجرة.
ومن شواهد ذلك أنه تقدم في عام 2019 بمقترح يرمي إلى شراء غرينلاند من الدنمارك، معتبراً إياه فرصةً تجاريةً سانحةً للولايات المتحدة، أما فيما يخصّ قناة بنما، فقد وصفها بأنها صفقة خاسرة لبلاده وأغرق في انتقادها، وحتى في تعامله مع ملف خليج المكسيك والمسائل الحدودية، كان نهجه يرتكز على بسط النفوذ على الموارد والاستئثار بالمكاسب الاقتصادية.
في مواجهة هذه السياسات الاستعمارية العدوانية، تصاعدت ردود الفعل الدولية بشدة وحدة، فقد أدان المجتمع الدولي هذه التصرفات لما تمثّله من انتهاك صارخ للحقوق والمواثيق الدولية، وتتجلى هذه النظرة التجارية الاستعمارية التي يتبناها ترامب تجاه الأراضي والشعوب، في سياساته إزاء فلسطين، فمقترحاته الرامية إلى تهجير الفلسطينيين من غزة وترحيلهم إلى بلدان أخرى، كصحراء سيناء في مصر، تماثل نهجه الاستعماري في القضايا الأخرى، ما أثار موجةً من السخط والاستنكار الدولي.
ويكشف هذا التشابه أن ترامب لا يكتفي بمقاربة القضايا الجغرافية والسياسية فحسب، بل يتعامل مع القضية الفلسطينية أيضاً من منظور تجاري بحت، متجاوزاً كل الأطر القانونية والإنسانية، وكأن هذه الأراضي المقدسة ليست سوى عقارات يمكن المساومة عليها، لا أوطاناً عامرةً بالتاريخ والهوية.
وتبرز هذه النزعة التجارية الاستعمارية التي تضع حقوق الشعوب في مرتبة ثانوية، جليةً في سياسات ترامب، فهذا النهج الذي يتعامل مع فلسطين وشعبها كسلعة قابلة للمقايضة، يدفع الفلسطينيين إلى مزيد من فقدان الثقة في المسارات الدبلوماسية، فترامب والتيارات المماثلة، بتبنيهم سياسات منحازة وتجارية، يرسلون رسالةً مفادها بأن المفاوضات ستصبّ في مصلحة القوى المتنفذة، لا في ميزان العدل والإنصاف.
تأثيرات هذا النهج على نظرة الفلسطينيين للمفاوضات
لقد ألقت سياسات ترامب ومن نحا نحوه من الساسة بظلالها الثقيلة على المشهد الفلسطيني، مخلّفةً آثاراً عميقةً في نظرة أبناء فلسطين لمسار التفاوض، وتتجلى هذه الآثار في مظاهر شتى:
انهيار الثقة في المسارات السياسية:
فحين تقدم واشنطن وتل أبيب على خطوات أحادية متغطرسة، كنقل السفارة إلى القدس أو طي صفحة اللاجئين من سجل المفاوضات، يستيقن الفلسطينيون أن الدبلوماسية قد غدت سراباً ولم تعد تجدي نفعاً في قضيتهم.
تصاعد التأييد الشعبي للانتفاضات المتجددة والنزوع نحو المقاومة المسلحة:
وجدت فصائل المقاومة كحماس والجهاد الإسلامي في هذا المناخ، فرصةً سانحةً لترسيخ رؤيتها القائلة بأن المقاومة وعمليات فذة كطوفان الأقصى هي وحدها السبيل إلى التغيير الحقيقي، لا مفاوضات التنازل والاستسلام.
وفي خضم هذا المشهد، حين تؤثر الدول التي طالما نادت بحل الدولتين الصمت المريب، أو تنحاز صراحةً إلى صف الكيان الصهيوني، يجد الشباب الفلسطيني نفسه مدفوعاً نحو خيارات أشدّ جذريةً، ما يرفع من احتمالات تكرار ملاحم كطوفان الأقصى أو اندلاع انتفاضة جديدة تهزّ أركان الاحتلال.
وهكذا، فإن سياسات ترامب المفعمة بروح المساومة والغطرسة، تقوّض أي محاولة من الأطراف الداخلية والإقليمية لإقناع الجماهير الفلسطينية بالتخلي عن خيار المقاومة المسلحة، والركون إلى وعود الأطراف الخارجية في تجربة الحلول الدبلوماسية.
ولعل ما يزيد الأمر وضوحاً أن التجربة التاريخية المريرة للفلسطينيين مع المساومات العقيمة، وفي المقابل، ما أسفر عنه طوفان الأقصى من نتائج باهرة - كتحرير كوكبة من الأسرى من سجون المحتل، وعجز الكيان الصهيوني - لأول مرة في تاريخ الصراع - عن تهجير أبناء فلسطين بقوة السلاح، قد أذكى جذوة المقاومة في الضفة الغربية وعزّز من انتشار خطابها الثوري.
تعليقاً على مقترح ترامب: لماذا لا تكون غرينلاند الوجهة؟
في رد دبلوماسي لاذع على تصريحات ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة، طرح عباس عراقجي وزير الخارجية الإيراني مقترحاً يقضي بنقل الإسرائيليين إلى غرينلاند بدلاً من تهجير الفلسطينيين، وقد حمل هذا التعريض الدبلوماسي والمناورة السياسية في طياته رسائل جوهرية:
كشف النهج الاستعماري للغرب:
كما راود ترامب الخيال بإمكانية شراء غرينلاند، استعارت إيران المنطق ذاته مقترحةً توطين الإسرائيليين في تلك الأرض الثلجية النائية.
تقويض مقترح ترامب وإظهار هشاشته:
أبرزت هذه المقارنة الذكية أنه إذا كان نقل الصهاينة إلى غرينلاند، يبدو في نظر الأمريكيين والأوروبيين ضرباً من العبث، فإن تهجير الفلسطينيين من أرضهم أشدّ سفاهةً وأبعد عن المنطق والقبول، ذلك أن الفلسطينيين هم أبناء الأرض الأصليون، المتجذرون في ترابها منذ الأجداد والآباء، في حين أن الكيان الصهيوني ما هو إلا صنيعة مصطنعة وهوية مزيفة، يتشكل سواد سكانه من مهاجرين أوروبيين وأفارقة وآسيويين، ما زالوا يعدون أوطانهم الأصلية في بقاع أخرى موطناً لهم، ولم يقصدوا الأراضي الفلسطينية المحتلة إلا طمعاً في المكاسب الاقتصادية ووعود الرفاه وجني الثروات.
إدانة سياسات الكيان الصهيوني في التهجير السكاني
ها هو ذا الكيان الصهيوني، الذي ما قامت دعائمه على وفود المهاجرين اليهود من أقاصي الأرض ودانيها، يمضي اليوم في إرغام أبناء فلسطين على النزوح عن مواطنهم الأصيلة، وقد انبرى الرد الإيراني، وإن اتسم في ظاهره بالتلميح السياسي والتعريض الدبلوماسي، ليميط اللثام عن مدى اعتلال منطق ترامب وانحراف سياساته القائمة على المقايضات المجحفة.
مآلات المقترح الإيراني بشأن الاستفتاء في فلسطين
ما فتئت إيران تطرح حلاً للقضية الفلسطينية، يتجلى في إجراء استفتاء شامل يستنطق إرادة أهل البلاد الأصليين من أبناء فلسطين، على اختلاف مشاربهم من مسلمين ومسيحيين ويهود، ولا يزال هذا الطرح راسخاً في صلب السياسة الإيرانية الرسمية، بيد أن تصاعد الدعم الغربي المتنامي للممارسات العنصرية التي يقترفها الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين، وتنكّره لكل المواثيق والأعراف الدولية، ولا سيما في عدوانه الأخير على غزة، مقروناً بمواقف ترامب المتغطرسة، قد تضافرت جميعها لتجعل من أي مسعى دبلوماسي أمراً متعذراً.
وعليه، فإن جمهورية إيران الإسلامية، وإن لم تنأ بمقترحها عن دائرة الاعتبار، إلا أنها تدرك في ظل المعطيات الراهنة أن ساحات الحرب وتطورات الميدان، هي التي ستخط بمداد من نار مستقبل فلسطين، لا المساعي الدبلوماسية، وإذا ما اندلعت شرارة انتفاضة جديدة أو اضطرمت نيران حرب أوسع نطاقاً، فستتوارى الخيارات السياسية والدبلوماسية خلف ستار من الظل والنسيان.