الوقت – "السوريون أنهكتهم الحروب المديدة، ويتعين علينا مدّ جسور التواصل الودي مع كل دول الجوار". سواء حازت هذه المقولة على القبول أم لم تحز، فإنها تصدر عن شخصية كانت - على مدار العقد المنصرم - محركاً رئيسياً في إشعال فتيل الحرب وإراقة الدماء وتشريد الملايين من أبناء سوريا، وهو المنتمي فكرياً إلى واحدة من أشد الأيديولوجيات دمويةً في التاريخ المعاصر.
إن تصريحات الجولاني - الذي يتزيَّا اليوم برداء الدبلوماسية ويُخاطَب في وسائل الإعلام باسمه الحقيقي أحمد الشرع – قد أثارت استغراب الکثير من المراقبين، فوعوده تتراوح بين إطلاق الحريات في لباس المرأة واحترام التعددية المذهبية وحقوق الأقليات، وصولاً إلى حل التشكيلات المسلحة والنأي بالنفس عن السلطة.
قد يُسهم تداول هذه الوعود البرَّاقة والخطاب المُغري، في تخفيف حدة القلق والتوجس الذي يساور الشعب السوري ودول المنطقة من هيمنة هيئة تحرير الشام - ذات الجذور القاعدية - على دمشق، بيد أن ذلك يطرح تساؤلاً جوهرياً مقلقاً: ما دلالات هذا التحول المفاجئ نحو المظهر الدبلوماسي في توقيتٍ يشهد تغلغلاً صهيونياً على مشارف دمشق، وتوسعاً للنفوذ التركي وأذرعه في الشمال، مع مضاعفة الوجود العسكري الأمريكي على الأراضي السورية؟
في خضمِّ ما يشهده السوريون من تدمير ممنهج يطال شرايين البُنى التحتية ومنظومات الدفاع والتسليح تحت وطأة الغارات الصهيونية، وفي ظل تصدُّع أركان المؤسسة العسكرية، مع تجلِّي العجز الصارخ للحكام المسلحين عن مجابهة قوى الاحتلال، وحيث تلوح في الأفق نُذُر التفتيت وسلب الأراضي وانحدار هيبة سوريا في المشهدين العربي والإقليمي - فهل يُعقَل أن يركن الشعب إلى وعود سراب تُطلقها الدول الداعمة للمسلحين وخصوم الوطن التاريخيين، حول تحسُّن المشهد المأزوم؟
وفي المشهد الراهن، وبالتوازي مع التحركات الاحتجاجية التي تشهدها العاصمة دمشق - تعبيراً عن هواجس المواطنين إزاء مخططات هيئة تحرير الشام المتعلقة بمصير النظام السياسي السوري - تتصاعد في محافظة القنيطرة موجة من الاحتجاجات الشعبية المنددة بالتغوُّل الصهيوني، والصمت المريب للفصائل المسلحة تجاه التمدد العسكري لقوات الاحتلال.
بيد أن استقراء تجربة العام المنصرم من مأساة غزة، يدفعنا إلى تساؤل جوهري: هل أثمرت الاحتجاجات المليونية التي اجتاحت أرجاء المعمورة، في لجم العصابة الصهيونية الإجرامية - المدعومة بالمظلة الأمريكية والغربية - عن مواصلة إبادة أطفال غزة ونسائها؟ وهل أولى الكيان الصهيوني أدنى اعتبار للقرارات الأممية، أو حتى لأحكام محكمة العدل الدولية في لاهاي؟
في الجانب الآخر من المشهد، تسعى تركيا - الداعم الرئيسي للمسلحين ومموِّلهم وممدِّهم بالسلاح على مدار السنوات المنصرمة - إلى تبديد مخاوف السوريين عبر مناورات سياسية وتحركات دبلوماسية، وحتى إن لم تكن تطمع في المحافظات السورية الشمالية تحقيقاً لحلم العثمانية الجديدة، فإنها تنظر اليوم إلى السلطة الجديدة كأدوات طيِّعة في دمشق، يتعين عليها تقديم مصالح أنقرة على المصلحة الوطنية السورية.
فكيف لتركيا - التي تحتل منذ سنوات أجزاءً من شمال سوريا والعراق بذريعة مخاوفها الأمنية وطموحاتها الإقليمية، وتصف شريحةً من الشعب السوري بالإرهاب وتسعى للتطهير العرقي في تلك المناطق - أن تكون ضامنةً للتوافق الوطني والاتفاقات الداخلية الشاملة نحو حكومة جامعة في سوريا؟ وهل يمكن لقوة محتلة أن تكون مرجعاً موثوقاً للدفاع عن السيادة السورية ومواجهة الاحتلال الصهيوني؟
مؤخراً، أطلق وزير خارجية ما تُسمى "الحكومة الانتقالية لهيئة تحرير الشام" تصريحات جوفاء وادعاءات باطلة، محذراً إيران من التدخل في الشأن السوري الداخلي، متهماً إياها بالسعي لنشر الفوضى في سوريا. والحال أن الوضع القائم لا يختلف عن حالة انهيار شامل لدولة بأكملها، فالشعب السوري، وإن كانت له مطالب مشروعة بتحسين الأوضاع وإجراء إصلاحات من النظام السابق، إلا أنه حتماً لن يقبل بتمزيق وطنه.
لقد كان السوريون على مدى عقود، حَمَلة راية الدفاع عن قضية تحرير القدس ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وقد تماهت هويتهم مع المقاومة لاسترداد الجولان المحتل من الصهاينة، وما لا شك فيه أن تحول سياسة الحكام الجدد، لن يؤثر في الروح المناهضة للاحتلال المتجذرة في نفوس الشعب السوري؛ تماماً كما لم تؤثر عقود من اتفاقيات السلام بين الأردن ومصر مع الكيان الصهيوني، ومجالسة حكامهما لقادة تل أبيب، في الروح المعادية للصهيونية لدى الشعبين المصري والأردني، بل زادتها اشتعالاً.
إن ما أشار إليه المرشد الإيراني الأعلی حول نهضة شباب سوريا الغيورين ضد المتسببين في الوضع الراهن والاحتلال الصهيوني، وتأكيده أن الزمن سيُثبت فشل جميع المعتدين في تحقيق أهدافهم، يُمثّل تحليلاً حكيماً ينبع من فهم عميق لتاريخ المقاومة لدى الشعب السوري.