الوقت - تتسارع الأحداث في سوريا بعد التغير الجذري الذي شهدته البلاد بسقوط النظام السابق وصعود هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (الجولاني) إلى الحكم.
وفي ظل هذا التحول، تتقاطر الوفود الدبلوماسية إلى دمشق لاستكشاف مستقبل البلاد ومعالم المرحلة الانتقالية، وسط تعقيدات سياسية واجتماعية تعصف بالداخل السوري، وتقاطعات دولية تجعل سوريا ساحة لصراع مصالح القوى الإقليمية والدولية.
هذه المرحلة الانتقالية تمثل مفترق طرق في تاريخ سوريا، إذ تُطرح تساؤلات كبرى حول شكل النظام السياسي القادم، وضمان المشاركة العادلة، وإمكانية الخروج من دائرة التبعية للخارج.
استطاعت هيئة تحرير الشام السيطرة على مفاصل الحكم، في خطوة أحدثت هزة كبيرة في الداخل والخارج، يحاول زعيم الهيئة، أحمد الشرع، تقديم نفسه كقائد منفتح ومسؤول عن تحقيق الاستقرار في سوريا، مع تطلع واضح لإزالة العقوبات الغربية ورفع اسم الهيئة من قوائم الإرهاب.
إلا أن هذا الصعود لم يكن دون صراعات داخلية، حيث بدأت المعارضة الخارجية، ممثلة بالائتلاف الوطني السوري، بالتعبير عن مخاوفها من استئثار الهيئة بالحكم وتهميش الأطراف الأخرى، مطالبةً بإشراف دولي على المرحلة الانتقالية، وفي المقابل، تظهر شخصيات قريبة من الهيئة خطابًا ينتقد المعارضة الخارجية، متهمة إياها بالفساد والفشل في تحقيق أهداف الثورة، ما يعمق الانقسامات داخل الصف المعارض.
من القضايا التي أشعلت الجدل بين الأطراف المختلفة، رفض الجولاني الالتزام بالقرار الدولي 2254، بحجة انتهاء صلاحية القرار بعد سقوط النظام السابق، هذا الرفض أدى إلى استياء المبعوث الأممي غير بيدرسون، الذي أكد على ضرورة استمرار العملية السياسية الانتقالية وفق آليات شاملة تضم كل الأطراف.
لكن هذا الموقف يعكس تباين الرؤى بين الأطراف السورية والدولية حول كيفية إدارة المرحلة المقبلة، ويزيد من تعقيد المشهد السياسي.
التدخلات الإقليمية والدولية
تلعب تركيا دورًا مركزيًا في المشهد السوري، حيث تمثل الداعم الأساسي لهيئة تحرير الشام، وتوفر لها الإمدادات العسكرية واللوجستية والسياسية، إلا أن هذا الدعم لا يخلو من الحسابات الدقيقة، إذ تواجه تركيا ضغوطًا من الدول العربية الكبرى مثل السعودية ومصر، التي تخشى من تمدد نفوذ الإخوان المسلمين عبر سيطرة الهيئة على الحكم.
تركيا تجد نفسها في موقف حساس، حيث تسعى للحفاظ على مصالحها الإقليمية من جهة، ومن جهة أخرى تعمل على تهدئة مخاوف شركائها العرب والإبقاء على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
كما تتحكم الولايات المتحدة بمعظم خيوط اللعبة السورية، من خلال وجودها العسكري في شرق الفرات ودعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تعتمد واشنطن على قسد كأداة ضغط على تركيا، بينما تستغل تركيا هيئة تحرير الشام كورقة ضغط مقابلة.
لكن الهيمنة الأمريكية لا تتوقف عند هذا الحد، إذ تسعى واشنطن لتشكيل مستقبل سوريا بما يتماشى مع مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وهو مخطط يهدف إلى تقسيم الدول وإعادة رسم خريطة النفوذ بما يخدم مصالحها ومصالح "إسرائيل".
من جهتها ترفض الدول العربية الكبرى بشكل قاطع استفراد هيئة تحرير الشام بالحكم، إذ ترى في ذلك بوابة لتمدد الإخوان المسلمين، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا لأنظمة تلك الدول، لذلك، يشترط العرب تقديم دعم سياسي واقتصادي لسوريا بوجود نظام تعددي يضمن مشاركة كل الأطراف، ويبعد الهيئة عن الهيمنة المطلقة.
مع تزايد الانتقادات للهيئة من الداخل والخارج، تظهر بوادر خلافات بين الفصائل المسلحة التي تتجاوز السبعين فصيلًا، هذه الفصائل تحمل توجهات وأيديولوجيات مختلفة، ما يهدد وحدة الصف الداخلي ويزيد من احتمالات نشوب صراعات جديدة.
كما تواجه الهيئة تحديًا في إدارة المرحلة الانتقالية، إذ تطالب المعارضة والمجتمع الدولي بتشكيل حكومة انتقالية تمثل جميع الأطراف، لكن الهيئة تبدو غير مستعدة للتخلي عن سيطرتها المطلقة، ما ينذر بمزيد من التوترات.
كما أن الطائفة العلوية والطائفة الدرزية تواجهان تحديات وجودية بعد سقوط النظام السابق، ففي حين تجد الطائفة العلوية نفسها معزولة ومحاصرة، تنقسم الطائفة الدرزية بين التوجه نحو "إسرائيل" أو التمسك بالهوية الوطنية.
أما باقي مكونات المجتمع السوري، فإنها تعاني من انعدام الثقة في القوى الحاكمة، ما يزيد من احتمالات حدوث اضطرابات داخلية واسعة النطاق.
كما تزايدت الانتهاكات والتعديات التي تهدد النسيج الاجتماعي في سوريا، ما أشاع أجواء من الخوف وعدم اليقين، كما أن احتمال نشوب حرب أهلية جديدة يظل قائمًا، وخاصة مع تعمق الانقسامات الداخلية واستمرار التدخلات الخارجية.
السيناريوهات المحتملة
نجاح الأطراف السورية والدولية في التوصل إلى تسوية سياسية شاملة قد يؤدي إلى تشكيل نظام جديد يضمن مشاركة جميع المكونات الوطنية.
استمرار سيطرة الهيئة على الحكم دون توافق داخلي قد يؤدي إلى إعادة إنتاج نظام ديكتاتوري.
تفاقم الصراعات الداخلية قد يؤدي إلى انهيار العملية الانتقالية والدخول في مرحلة من الفوضى العارمة.
التدخلات الخارجية وتعارض المصالح الإقليمية قد تؤدي إلى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ دائمة.
سوريا اليوم على مفترق طرق، حيث تواجه مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات والمخاطر، فبين الضغوط الدولية والتعقيدات الداخلية، يبقى السؤال: هل يستطيع السوريون تجاوز خلافاتهم وإعادة بناء دولتهم، أم إن البلاد ستظل ساحة للصراعات الخارجية والمصالح المتعارضة؟
الجواب على هذا السؤال يعتمد على مدى قدرة السوريين على تحقيق توافق داخلي شامل، مدعوم بإرادة دولية صادقة تحفظ سيادة البلاد ووحدتها، بعيدًا عن الحسابات الإقليمية والدولية الضيقة، سوريا تحتاج إلى معجزة سياسية واقتصادية لتجاوز هذه المرحلة، لكن الأمل يبقى في إرادة شعبها ورغبته في الخروج من دوامة الصراعات نحو مستقبل أكثر استقرارًا وعدلًا.
كما يحاول أحمد الشرع (الجولاني) إعادة تشكيل صورته من قائد فصيل عسكري متشدد إلى سياسي براغماتي قادر على قيادة البلاد نحو الاستقرار.
حيث يقدم الجولاني نفسه كزعيم معتدل يسعى لتحقيق استقلال سوريا عن التدخلات الأجنبية، ويعتمد خطابًا يحمل شعارات الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية.
يسعى الجولاني إلى إزالة وصمة الإرهاب عن هيئة تحرير الشام عبر التركيز على تقديمها كحركة تحرر وطني.
تظهر ملامح استراتيجية الجولاني شبيهة بما قام به فيدل كاسترو في كوبا، حيث حاول الأخير بناء صورة قائد ثوري يقف ضد القوى العظمى ويقود بلاده نحو السيادة والاستقلال.
مثل كاسترو الذي تحدى الهيمنة الأمريكية في كوبا، يحاول الجولاني تحدي المجتمع الدولي الرافض لهيمنة الهيئة على سوريا.
يسعى الجولاني إلى توسيع قاعدته الشعبية عبر تقديم نفسه كحامٍ لمصالح الشعب السوري.
كما استغل كاسترو موقع كوبا في المواجهة مع أمريكا، يحاول الجولاني استغلال أهمية موقع سوريا في قلب الصراعات الإقليمية لجذب الدعم والاعتراف.
رغم محاولات الجولاني لتقديم نفسه كقائد ثوري، هناك فوارق كبيرة بين الواقعين:
الدعم الدولي: كاسترو حظي بدعم الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى، بينما يعاني الجولاني من عزلة دولية وصراع مع المجتمع الدولي.
الطبيعة الأيديولوجية: كاسترو كان يحمل مشروعًا ماركسيًا عالميًا، بينما يواجه الجولاني صعوبة في تسويق مشروعه الإسلامي دوليًا.
الحاضنة الشعبية: كوبا كانت موحدة نسبيًا حول قيادتها، أما سوريا فهي بلد يعاني من انقسامات عميقة تهدد أي مشروع سياسي.
يحاول الجولاني تقديم نفسه كقائد وطني يحمل مشروعًا جديدًا لسوريا، لكن الواقع السوري المعقد يفرض عليه تحديات هائلة، فبين الخلافات الداخلية والانقسامات المجتمعية، وبين الضغوط الدولية والإقليمية، تبدو محاولات الجولاني أقرب إلى مقامرة سياسية محفوفة بالمخاطر.