الوقت - منذ بداية الحرب على غزة، تعمقت عزلة الکيان الصهيوني في العالم بسبب حجم الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، وقامت بعض الدول بتقليص أو قطع علاقاتها مع هذا الکيان.
في هذه الأثناء، تحاول بعض الدول الإسلامية، المسؤولة بشكل أكبر عن الصراع الفلسطيني، اتخاذ إجراءات عملية ضد الکيان الصهيوني من أجل الحفاظ على مظهرها، وقد نفذت تركيا خططاً في الأيام الأخيرة في هذا الإطار.
وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة التجارة التركية أنه منذ الخميس الماضي، أوقفت تركيا جميع الصادرات والواردات من وإلى "إسرائيل"، بسبب تفاقم المأساة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، وبناءً على ذلك، ستنفذ تركيا هذه الإجراءات الجديدة بشكل صارم وحاسم، حتى يسمح الکيان الصهيوني بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة دون انقطاع.
وجاءت القيود التي فرضتها تركيا على التجارة مع الکيان الإسرائيلي، بعد أن رفضت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو طلب أنقرة إرسال مساعدات إنسانية للفلسطينيين في غزة.
إن تصاعد التوتر بين تركيا والكيان الصهيوني بسبب حرب غزة ليس جديداً، لكنه الآن يبدو مختلفاً من الناحية المتعلقة بالحدة والتطورات، وحسب الخبراء، فإن القرار التركي قد لا يؤثر بشكل مباشر على اقتصاد الکيان الإسرائيلي، لكنه يمثّل رسالةً سياسيةً مهمةً في وقت حرج، وخاصةً في ظل انكماش اقتصاد الأراضي المحتلة، ومخاوف المواطنين الصهاينة بشأن هذه القضايا.
التخلص من ضغوط الرأي العام
يعتقد بعض الخبراء أن قطع العلاقات التجارية بين تركيا والكيان الصهيوني، لن يكون له تأثير كبير على اقتصاد هذا الكيان، لأنه وحسب أرقام الميزان التجاري بين الجانبين، فقد صدرت تركيا منتجات بقيمة أكثر من 5.4 مليارات دولار إلى الأراضي المحتلة، في حين بلغت صادرات الكيان الإسرائيلي إلى تركيا أكثر من 1.6 مليار دولار، ويأتي هذا على حساب تركيا أكثر منه على حساب الكيان الإسرائيلي، التي کان الميزان التجاري لمصلحتها بشكل كبير.
تعدّ هذه أقوى خطوة تتخذها أنقرة بعد انتقادها الشديد للحملة العسكرية الصهيونية على غزة منذ أشهر، ورغم أن قرار الحكومة التركية اتخذ على ما يبدو بسبب الإبادة الجماعية في غزة، إلا أن هذا الإجراء تأثر أكثر بالتطورات الداخلية في تركيا، ما أجبر أردوغان في النهاية على اتخاذ إجراء عملي لدعم فلسطين.
في الأشهر الأخيرة، طالب الرأي العام التركي، في ظل الاحتجاجات الحاشدة الداعمة لفلسطين، الحكومة باتخاذ موقف قوي ضد الإبادة الجماعية الصهيونية في غزة، لكن رغم تصريحات أردوغان النارية التي انتقد فيها جرائم الكيان الصهيوني، بل "شبه نتنياهو بهتلر"، إلا أنه لم يتخذ خطوةً فعليةً لحماية أهل غزة، وقد تسببت هذه القضية في مواجهة أردوغان مطالب داخلية متزايدة باتخاذ إجراءات ملموسة أكثر ضد الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أثبت الرأي العام التركي أن الجماعات الدينية والعلمانية تقف على جبهة موحدة في دعم فلسطين، على الرغم من اختلافها في المعتقدات، وقد شكّل هذا التحالف ضغوطاً على رجال الدولة في أنقرة، لاتخاذ قرارات قوية ضد اعتداءات تل أبيب على غزة.
ويمكن رؤية استياء الشعب التركي من سياسات أردوغان ضد حرب غزة، في نتائج الانتخابات البلدية في هذا البلد بوضوح، حيث إن حزب العدالة والتنمية الحاكم قد خسر الساحة السياسية أمام المنافسين الإسلاميين بعد عقدين من الزمن، ما أظهر أن الرأي العام ليس لديه رأي إيجابي تجاه حكومة أردوغان، ولذلك، ومن أجل لفت انتباه الرأي العام إليه مرةً أخرى، اختار أردوغان مضطراً قطع العلاقات التجارية مع الکيان الصهيوني لإظهار أنه لا يزال يدعم فلسطين.
إن دعم الشعب الفلسطيني بين الشباب التركي واسع النطاق في شبكات التواصل الاجتماعي، ومؤخراً بدأت مجموعة تدعى "مهمتك" نشاطها في تركيا، والتي تدعو إلى إرسال قوات إلى غزة، وهو ما يظهر أن الرأي العام التركي، على عكس سياسيي أنقرة، يدافع على نطاق واسع عن قضية القدس، ورأينا مثالاً على هذا الدعم في العملية الاستشهادية التي تعرض لها مواطن تركي في الضفة الغربية، حيث هاجم جنديين من جنود الاحتلال بسكين، واستشهد في النهاية.
وعلى الرغم من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية ضد الكيان الصهيوني، إلا أن الأحزاب المنافسة لا تعتبرها كافيةً، حيث انتقد فاتح أربكان، زعيم حزب "الرفاه من جديد" التركي، سياسة حكومة أردوغان المتمثلة في عدم قطع العلاقات الاقتصادية مع "إسرائيل" بشكل كامل، وقال إن "تعاون أحفاد الدولة العثمانية مع إسرائيل، لا يليق بهذا البلد الإسلامي"، وتظهر هذه التصريحات أن الأطراف المتنافسة غير راضية عن سياسات أردوغان فيما يتعلق بحرب غزة.
تلميع صورة تركيا بين الشعوب الإسلامية
كما تأثر قرار أنقرة الأخير ضد الكيان الصهيوني، بالتطورات التي شهدتها المنطقة والعالم، ونظراً لأن الرأي العام في العالم الإسلامي يطالب باتخاذ إجراءات صارمة ضد الکيان الصهيوني، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع تل أبيب، فقد اتخذت الحكومة التركية، التي تعتبر نفسها دائماً زعيمة الدول الإسلامية، خطوات لإظهار أنها رائدة في هذا المجال.
في الأشهر الأخيرة، لم تدّخر بعض الدول غير المسلمة في أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا أي جهد في دعم شعب غزة، ومن خلال قطع العلاقات ورفع قضية الإبادة الجماعية الصهيونية إلى محكمة لاهاي، أخذت زمام المبادرة في نصرة فلسطين، وكان ذلك ثقيلاً على زعماء أنقرة الذين رفعوا دائماً راية الدعم لفلسطين، ففكروا في معالجة ذلك.
هذا فيما زادت شعبية إيران بين الشعوب الإسلامية بعد العملية الصاروخية الإيرانية "الوعد الصادق"، التي ضربت الأراضي المحتلة وتمكنت من توجيه ضربة قوية للکيان الإسرائيلي.
وجاء الإجراء الإيراني تلبيةً لرغبة الرأي العام في العالم الإسلامي، وتعزيز صورة محور المقاومة باعتباره الداعم للشعب الفلسطيني في العالم، ولهذا السبب، فإن تركيا التي ظلت منذ عقدين من الزمن تردد شعار دعم الشعب الفلسطيني واستضافة حماس، لم تتمكن من اختراق قلوب المسلمين بقدر إيران، ولذلك، فإن قطع العلاقات التجارية كان أقل ما يمكن أن يفعله أردوغان، لتلميع صورة حكومته في المنطقة.
وبالتالي، فإن المكاسب السياسية التي قد تعود على تركيا نتيجة إنهاء هذه العلاقات، يمكن أن تكون أكبر بكثير من الخسائر الاقتصادية المحتملة، فأردوغان الذي اكتسب شعبيةً أكبر بين المسلمين عام 2009 عندما دخل في صراع كلامي مع شيمون بيريز، الرئيس السابق للكيان الصهيوني، دفاعاً عن الفلسطينيين في اجتماع دافوس، يحاول إعادة تمثيل السيناريو نفسه وتعزيز موقفه السياسي.
بالنظر إلی الأحداث الأخيرة في غزة، فإن القرار الأخير للحكومة التركية كان بمثابة نوع من السياسة والدعاية التي قام بها أردوغان، لزيادة شعبيته في الداخل والخارج.
حيث جاء القرار التركي في وقت كانت فيه كل الدلائل تشير إلى اتفاق محتمل بين حماس والكيان الصهيوني، وكان الوسطاء الدوليون يستعدون لتنفيذ الاتفاق، وفي هذه الظروف، فإن أردوغان الذي كان يعرف تفاصيل اتفاقيات وقف إطلاق النار، وكان على يقين من أن الحرب في غزة في نهاية الطريق، اتخذ إجراءات لإظهار أنه لا يزال الداعم الأكبر للشعب الفلسطيني.
لكن تركيا تروّج بقوة لهذا القرار الذي جاء في الوقت الضائع في وسائل الإعلام، لدرجة أنه يبدو أنه لا توجد دولة أخرى جادة مثل تركيا في الدفاع عن قضية القدس.
ومع علمه باتفاقية وقف إطلاق النار، قام أردوغان بتعليق العلاقات التجارية مؤقتًا مع الکيان الصهيوني، وبما أن هذا القرار كان مشروطًا بوقف الحرب، فيمكن لأردوغان إلغاء هذا القرار على الفور.
لقد أعاد أردوغان إحياء العلاقات السياسية مع تل أبيب بعد عقد من التوتر، وهو لا يريد أن يفقد هذه العلاقات الناشئة بسهولة، ولو كانت تركيا حقاً داعمةً للشعب الفلسطيني، لما غضت الطرف عن الجرائم الصهيونية المستمرة منذ سبعة أشهر في غزة، ولمارست منذ البداية ضغوطاً على حكومة نتنياهو المتطرفة من خلال قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية.
لأن السبب الرئيسي لاستمرار الحرب في غزة، هو صمت الدول العربية والإسلامية التي اكتفت بإصدار بيانات غير ملزمة في المحافل الدولية، ولم تنظر إلى أي عقوبة جادة لمواجهة الکيان الإسرائيلي، وهذا ما جعل الصهاينة أكثر غطرسةً في قتل المزيد من الفلسطينيين.