الوقت- إن حدوث تغيرات أمنية وجيوسياسية واسعة النطاق في هندسة علاقات القوة في منطقة غرب آسيا خلال العقد الماضي، جعل الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعتبر نفسها القوة المهيمنة في الخليج الفارسي حتى الماضي القريب، تضطر إلى مراجعة إجراء تغييرات واسعة النطاق في استراتيجياتها الإقليمية وأحد أهم المجالات وأكثرها حساسية لتغيير استراتيجية الولايات المتحدة في غرب آسيا يتعلق بترتيب القوات والقواعد العسكرية في منطقة الشرق الأوسط.
وفي العقود السبعة الماضية، قامت الولايات المتحدة ببناء العديد من القواعد في الدول العربية، لكن من المؤكد أن أهم هذه القواعد كانت قاعدة "العديد" في قطر باعتبارها مركزًا لقوات "القيادة المركزية الأمريكية" الجوية، فضلاً عن الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية في البحرين، لكن السؤال المطروح الآن هو أنه وفقا للتغيرات في الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية، هل ستظل هذه القواعد محورا للأنشطة العسكرية للقيادة المركزية أم لا؟ قضية تشير فيها الأدلة إلى إمكانية حدوث تغييرات كبيرة في ترتيب قواعد القيادة المركزية.
وفي هذا الصدد، فإن الزيارة غير المتوقعة لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، مارك ميلي، إلى الأردن (1 أيلول/سبتمبر) واللقاء مع ملك هذا البلد عبد الله الثاني، تتحدث عن تحركات واشنطن الأمنية الجديدة في المنطقة.
وأعلن مكتب المملكة الأردنية أن الجانبين بحثا سبل التعاون والشراكة بين الأردن والولايات المتحدة في المجال العسكري والجهود المبذولة في مكافحة الإرهاب، وأعلنت وسائل الإعلام الصهيونية أن هدف هذه الرحلة هو تنسيق الدفاع ضد التهديدات الإيرانية وغيرها من القضايا الاستراتيجية المشتركة.
ولقد بحث عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني، مع رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي مارك ميلي، الأربعاء الماضي، التعاون في المجالات الدفاعية بين البلدين، جاء ذلك خلال استقبال المسؤول الأمريكي بالعاصمة عمان، في إطار زيارة غير معلنة يجريها الأخير إلى المملكة، وفق بيان للديوان الملكي، تلقت الأناضول نسخة منه، وبحث الطرفان خلال اللقاء سبل تطوير الشراكة بين الأردن والولايات المتحدة في مجالات الدفاع، كما تناولا الجهود الدولية في محاربة الإرهاب ضمن نهج شمولي، وبينما لم يحدد البيان الأردني موعد وصول ميلي إلى المملكة، أو مدة زيارته لها، إلا أن ميلي وصل إلى الأردن قادما من "إسرائيل"، حيث التقى، أمس، رئيس هيئة الأركان العامة الإسرائيلية هرتسي هاليفي، في تل أبيب.
وذكرت السفارة الأمريكية لدى "إسرائيل"، في بيان، أن ميلي وهاليفي بحثا قضايا الأمن الإقليمي، وفرص زيادة التعاون الثنائي، والتنسيق للدفاع ضد التهديدات في جميع أنحاء المنطقة وغيرها من الأمور ذات الاهتمام الاستراتيجي المشترك.
وأشار البيان إلى محافظة الولايات المتحدة و"إسرائيل" على "علاقة عسكرية قوية كشريكين رئيسيين ملتزمين بالسلام والأمن في الشرق الأوسط"، وتأتي جولة ميلي بعد أكثر من أسبوع من انعقاد قمة عربية ثلاثية في مدينة العلمين المصرية، بين قادة دول مصر والأردن وفلسطين.
وانعقدت القمة في 14 أغسطس/ آب الجاري، وأكدت على أهمية حل القضية الفلسطينية وتحقيق السلام كضرورة إقليمية ودولية، وضرورة تنفيذ "إسرائيل" التزاماتها وتعهداتها وفقا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والاتفاقات والتفاهمات الدولية السابقة، بما فيها تلك المبرمة مع الجانب الفلسطيني.
والأردن عضو في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي في الجارتين سوريا والعراق، وترتبط عمان وواشنطن بتعاون عسكري وثيق، وتعد الولايات المتحدة داعما أساسيا للأردن، ووقع البلدان في سبتمبر/ أيلول 2022 مذكرة تفاهم تقدم بموجبها واشنطن مساعدات مالية سنوية للمملكة بقيمة 1.45 مليار دولار للفترة بين 2023 و2029.
لماذا الأردن؟
قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي خلال زيارته الأردن إنه لا يمكن تصور أن تتخلى واشنطن عن منطقة الشرق الأوسط، معتبرا أن الأردن من أقرب حلفاء أمريكا بالعالم، وأضاف ميلي في مقابلة مع قناة "المملكة" الأردنية، إن "الأردن من أفضل أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وإن العلاقات العسكرية الأردنية الأمريكية وثيقة للغاية، وأشار إلى أن "القوات المسلحة الأردنية مهنية وكفوءة جدا، وأن الجيش الأمريكي يقدم التدريب والاستشارات والمعدات العسكرية للقوات المسلحة الأردنية"، وأكد أن "منطقة الشرق الأوسط مهمة جدا للولايات المتحدة، ولا يمكن التصور أن تتخلى الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط أبدا".
ولفت إلى أن عدد "القوات العسكرية الأمريكية في المنطقة يزيد وينقص استنادا إلى حجم التهديد"، مشيرا في هذا السياق إلى أن "تنظيم داعش وأيدولوجيته لم تمت رغم القضاء على خلافته، وهناك بعض إرهابييه يجوبون صحراء سوريا وإلى حد ما العراق وهذا يشكل تهديدا للأردن"، وإذ أكد أن "مكافحة الإرهاب تبقى مصلحة عليا بالنسبة للولايات المتحدة"، لفت إلى أن حجم القوات الأمريكية في سوريا متواضع وأن مغادرة القوات الأمريكية لسوريا قرار سياسي تتخذه القيادة السياسية، وقال ميلي إن "الوجود العسكري الأمريكي في سوريا هو لتثبيت هزيمة "تنظيم الدولة الإسلامية"، قائلا إن الجيش الأمريكي لا يقوم بالتوسع في الوجود العسكري في سوريا.
من الجدير ذكره أن الجيش الأمريكي يسيطر بشكل غير قانوني على مناطق في شمال وشمال شرق سوريا في محافظات دير الزور والحسكة والرقة، حيث توجد فيها أكبر حقول النفط والغاز في سوريا.
هذا وقد وصفت دمشق بصورة متكررة وجود الجيش الأمريكي على أراضيها بأنه احتلال وقرصنة لممتلكات الدولة وسرقة صريحة للنفط، وكان الملك الأردني عبدالله الثاني التقى الجنرال ميلي خلال زيارته الأردن، وجرى خلال اللقاء بحث سبل تطوير الشراكة بين الأردن والولايات المتحدة في مجالات الدفاع، كما تناول اللقاء الجهود الدولية في محاربة الإرهاب ضمن نهج شمولي.
نقل القواعد الأمريكية من قطر إلى الأردن
في خطوة أثارت جدلا واسعا، أعلنت واشنطن عن إغلاق قواعد عسكرية لها في قطر كانت تستخدم كمستودعات للذخيرة والأسلحة، ونقلت قواتها ومعداتها إلى الأردن.
أعلن الجيش الأمريكي في بيان له إغلاق معسكر السيلية الرئيسية، إلى جانب معسكر السيلية الجنوبية، ونقطة إمداد بالذخيرة تسمى "فالكون"، وهي بمثابة منطقة انطلاق أمامية للإمدادات الأمريكية في الشرق الأوسط وحسب موقع "Stars and Stripes"، يقول محللون إن هذه الخطوة تجعل واشنطن في وضع أفضل للتعامل مع تهديدات طهران، وتعكس الأولويات المتغيرة للجيش الأمريكي بالمنطقة.
ووفقا لبيان الجيش فإن هذه المعسكرات والقواعد كانت بمثابة نقطة انطلاق للإمدادات الأمريكية في الشرق الأوسط؛ حيث احتوت على 27 مستودعا لتخزين الدبابات وناقلات الجند المدرعة، ومجموعة متنوعة من المعدات.
وأوضح البيان أن الإمدادات من القواعد الثلاث، إضافة إلى مهمة دعم متمركزة هناك، أصبحت الآن جزءا من مجموعة دعم المنطقة في الأردن، وعن تلك الخطوة، قال خبراء أمنيون إن إغلاق القواعد في قطر ونقل المهمة إلى الأردن يمكن أن يفيد الولايات المتحدة في النزاعات المحتملة مع خصومها في المنطقة.
لقد جرى تقسيم مهام القواعد الأمريكيّة وتوزيعها على دولتين في الشّرق الأوسط حيث يكون اختِصاص القاعدة الأمريكية في الأردن القِيام بدور رئيسي في أي حربٍ إقليميّة برية قادمة ضد خصومها، أمّا قاعدة العيديد في قطر فسَتُواصل دورها كقاعدة جويّة أمريكيّة تُشرِف على المعارك، وتَنطلِق منها الطّائرات في جميع حروب المنطقة المُستقبليّة مع إضافة قِيادة أمريكيّة بمهمة جديدة وهي مواصلة الحرب ضد طالبان وتمويل وتجنيد المُعارضين لها وتسليحهم في مرحلة ما بعد انسِحاب القوّات الأمريكيّة كُلِّيًّا في شهر أيلول (سبتمبر) المُقبل.
اللّافت أنه جرى تجاهل ذِكر المملكة العربيّة السعوديّة والكويت والبحرين وسلطنة عُمان في جميع هذه الخطط والمُتغيّرات، ما يطرح العديد من علامات الاستِفهام حول طبيعة النّوايا السّريّة الأمريكيّة المُستقبليّة في منطقة الخليج في عهد إدارة الرئيس بايدن. يبدو أن الاشهر المقبلة ستكون ساخنة إقليميا بسبب خطط توزيع الأدوار الأمريكيّة الجديدة، وما يُمكن أن يترتّب عليه من تطوّراتٍ عسكريّة على وجه الخُصوص، فإيران وحُلفاؤها هم الهدف الأكبر في جميع سيناريوهات هذه الاستراتيجية الأمريكية العسكريّة الجديدة، الأمر الذي قد يَنعكِس اضطرابات داخليّة في الدول التي ستُشَكِّل رأس الحربة فيها في ظِل تنبّؤات عديدة باحتمالية عودة ثورات الرّبيع العربي المحسنة والأكثر تركيزًا على القضايا الداخلية والقوميّة معًا.
الحليف الرئيسي غير المعلن الذي سيكون له الدور الأكبر في هذه المخططات هو "إسرائيل"، ولا نَستبعِد انضِمامها قريبًا إلى محور التّنسيق العسكري الأمريكي الأكبَر في المِنطقة.