الوقت_ في الوقت الذي باتت فيه الولايات المتحدة طرفاً غير موثوق به بالنسبة للجميع، بسبب تصرفاتها الطائشة وسياساتها الخبيثة، ناهيك عن تاريخها الدمويّ والقذر في تدمير الدول وحصار الشعوب واغتيال السلام -باعتراف مسؤوليها-، أجرت القوات الأمريكية تدريبات في عمق الصحراء السورية في الشهر الماضي ، وهو سيناريو يشير إلى خطط واشنطن الجديدة للمنطقة وربما يظهر تأثيرها في تعزيز قوة خلايا داعش النائمة، فهي التي أسست ونظمت وسلحت تنظيم "داعش" الإرهابيّ وقامت بزرعه في المنطقة، وسهلت ويسرت لجميع الإرهابيين والمجرمين والمنحرفين فكريّاً وأخلاقيّاً الانضمام لهذا التنظيم، وساعدتهم بقوة في التغلغل داخل الأراضي العراقيّة والسوريّة، بهدف إثارة الفوضى وتفتيت الجيوش النظاميّة واستنزافها، وبعد فشل التنظيم الإرهابيّ رغم عملياته الاجراميّة الكثيرة وتمدده لسنوات على الارض وسيطرته على العديد من المدن، كما قامت واشنطن بتنفيذ السيناريو الذي وضعته أجهزة المخابرات، ونشرت قواعدها وقواتها المُحتلة بشكل غير شرعيّ تحت عنوان "محاربة داعش"، لتحقق مؤامراتها في تدمير الدول التي تعتبر معادية لها وللكيان الصهيونيّ المجرم فتنهب خيراتها وتحاصر شعبها وتحاول القضاء على دورها.
تدريبات خطيرة
في ظل التحذيرات السوريّة المستمرة بانسحاب المحتلين بشكل فوريّ من الأراضي السوريّة، باتت المواجهة بين قوات جبهة المقاومة والولايات المتحدة أكثر خطورة من ذي قبل مع تزايد الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة على القواعد الأمريكية في شرق سوريا (محافظة دير الزور) خلال العام الماضي، كما في الجولة الأخيرة من هذه الهجمات يوم الاثنين، حيث استهدفت هجمات الطائرات المسيرة قاعدة التنف مرة جديدة، في غضون ذلك أفادت بعض المصادر بزيادة التحركات العسكرية الأمريكية المشبوهة في البادية السورية، كما أوضحت تقارير إعلامية عن تدريبات للقوات الأمريكية في منطقة "55" بالصحراء السورية، وهذه التدريبات التي بدأت يوم الجمعة تجري باستخدام أسلحة ومعدات خفيفة وثقيلة وبحضور مقاتلين هجوميين وتحاكي أجواء المعارك الحقيقية، هذه هي التدريبات الأمريكية الثانية في الشهر الماضي، وقد أجرت واشنطن العام الفائت عدة تدريبات عسكرية في البادية السورية.
ويشير البعض إلى أنّ التدريبات الأمريكيّة هدفها الأول تقوية فلول "داعش" الإرهابيّ، وإنّ اختيار المنطقة الصحراوية السورية للتدريب من قبل القيادة المركزية الأمريكية يدل على نقاط مهمة، فهذه المنطقة الشاسعة غير مأهولة تقريبًا وأصبحت ملاذًا آمنًا للإرهابيين في السنوات الأخيرة، ويقال إن إرهابيي تنظيم "الدولة الإسلامية" استخدموا هذه المنطقة لشن هجمات مؤقتة على المدن والقرى المحيطة بهذه الصحراء، وكانت هذه المنطقة نفسها المصدر الرئيسي لنشاط تنظيم داعش للسيطرة على أجزاء كثيرة منها مدينة تدمر التاريخية، ما يعني أن اختيار هذه المنطقة لم يكن عشوائيّاً أبداً، ولكنه هادف للغاية.
وبالنظر إلى أن العراق وسوريا تمكنتا من مواجهة الجماعات الإرهابية تقريبًا وتحقيق نجاح نسبي في السنوات الأخيرة، وباعتبار أن الاستقرار في هذه الدول سيهدد استمرار الوجود غير الشرعيّ للجنود الأمريكيين، يبدو أن واشنطن تبحث عن طريقة لزرع الانفلات الأمنيّ لمصلحة التنظيمات الإرهابيّة تلك ومن لها أفضل من البعبع الذي صنعته "داعش"، وإنّه لا يمكن الوثوق بأيّ خطوة أمريكيّة في هذا الخصوص فهي التي فرضت عقوبات اقتصاديّة على العديد من المسؤولين السوريين منذ بداية الأزمة، والتي دعت على لسان الرئيس السابق باراك أوباما الرئيس السوري بشار الأسد إلى قيادة عملية الانتقال أو الانسحاب، والتي تنقل سفيرها في دمشق، روبرت فورد، دون إذن رسميّ في محافظة حماة وشارك بإحدى مظاهراتها بعد أشهر على بدء لهيب ما أُطلق عليه "الربيع العربيّ" في البلاد، ناهيك عن الدعم العسكريّ والاستخباراتيّ والعقوبات الكثيرة لإسقاط دمشق، وقد تلا تلك التدخلات دعوات كثيرة لرحيل الرئيس السوريّ في تدخل أمريكيّ سافر ومعهود ضد العواصم التي ترفض الخنوع للإملاءات الأمريكيّة والصهيونيّة.
واليوم، وفي الوقت الذي تُظهر فيه الولايات المتحدة أنّها لا ترغب بوجود عاصمة معادية للكيان الإرهابيّ الذي يحتل الأراضي السوريّة واللبنانيّة والفلسطينيّة، ويقتل الأبرياء ويدمر منازلهم ويطردهم من ديارهم، وتؤكد أنّ قوات الاحتلال الأمريكيّ لن تخرج من شمال شرق سوريا، وستواصل العمل مع ما تسمى “قوات سوريا الديمقراطية” الانفصاليّة، لا تزال فلول داعش في العراق وسوريا على تواصل مع الأمريكيين، ومؤخراً تم تسليم مئات العناصر من "داعش" اعتقلتهم الحكومة السورية إلى العراق، وآلاف الأشخاص في سجون سورية في مناطق سيطرة الأكراد، حيث يمكن أن تواجه المنطقة أزمة جديدة بالاستناد إلى حقيقة أن المئات من عناصر داعش الخطرين قد تم نقلهم إلى سجون عراقية هي خطة أمريكية حتى يتمكنوا بسهولة أكبر من الاستفادة من نفوذ هؤلاء الإرهابيين على الأراضي العراقية، لأن الأمريكيين لهم نفوذ كبير في المؤسسات الأمنية في العراق، وخاصة في سجون هذا البلد، ويمكنهم إذا لزم الأمر تهريب عناصر داعش من السجن بمساعدة عناصر عراقية ربما تتبع لهم، ولا يمكننا أن ننسى تجربة إطلاق سراح زعيم داعش أبو بكر البغدادي من سجن بوكا عام 2009، الشيء الذي أدى حسب كثيرين إلى نشوء داعش الإرهابيّ.
مكانٌ مهم
من ناحية أخرى، اختارت أمريكا منطقة لممارسة قواتها فيها أقل تحركات وربما مضايقات يسببها الجيش السوري للأمريكيين، حيث يمكنهم تنفيذ خططهم بأمان وسرعة، وبناء على ذلك يرى محللون أن الحكومة السورية ليس لديها جبهة قوية حول البادية السورية، بينما لا تملك المعلومات الأمنية اللازمة عنها، وتفتقر إلى القوات المدربة للعمليات العسكرية في البادية، والمطاردة والكمائن، بينما يتم تدريب إرهابيي داعش في هذا المجال، باعتباره تنظيما أمريكيّا، وقد اعترف المسؤولون السابقون في هذا البلد مرات عديدة أنهم أسسوا هذه المجموعة التكفيرية للإطاحة بالحكومة السورية وبنفقات مالية على مشيخات الخليج ومساعدات الأسلحة الغربية من أجل تحقيق الهدف الأكبر، أيّ "الشرق الأوسط الجديد".
وعلى الرغم من أنّ سلطات واشنطن زعمت مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة أنها اغتالت كبار قادة داعش من أجل تقديم أنفسهم على أنهم أعداء للإرهابيين بهذه المزاعم، ولكن حتى الآن لا يوجد دليل واضح على ما إذا كان الأمريكيون قد استهدفوا بالفعل قادة هذه المجموعة التكفيريّة، وفقط الوثائق في هذا السياق هي تصريحات جوفاء لمسؤولين في البيت الأبيض، كما شكلت الولايات المتحدة عندما كان تنظيم "داعش" منتشرًا في سوريا والعراق، تحالفًا استعراضيًا زعم أنه يريد تدمير جذور داعش، لكن مقاتلي هذا البلد وطائراته المسيرة، بدلًا من مواجهة داعش، قتلوا المدنيين السوريين والعراقيين ودعلوا دماء الأبرياء تسيل لسنوات ومازالت مستمرة، لذلك فإن ادعاء قتل قيادات "داعش" ليس أكثر من كذبة، تتم بهدف خداع الرأي العام من أجل تبرئة أميركا من الاتهامات بدعم هذه الكيان الإرهابيّ.
أيضاً، إنّ الادعاء بتدمير داعش التكفيري يوفر للأمريكيين التلميح إلى أن هذه المجموعة قد ضعفت ولا تشكل أي خطر على المنطقة، حيث لا تركز حكومتا العراق وسوريا على التعامل مع تهديدات هذه المجموعة الإرهابيّة، و في حال استعادة داعش للسيطرة بشكل مفاجئ سيجعلون الحكومتين العراقية والسورية غير قادرتين على التعامل معه بشكل سريع وعرقلة إيجاد حل واعتماد استراتيجية فورية للتعامل مع التكفيريين، لأن داعش أظهر قدرته على تجنيد جنود في العراق وسوريا في أقصر وقت ممكن إذا توافرت الظروف، وهذه القضية يمكن أن تشكل تهديدًا لأمن العراقيين والسوريين على حد سواء، ولقد أظهرت قوى المقاومة العراقية والسوريّة عملياً أنها لن تستسلم لخداع الأمريكيين المتفائلين بداعش، ولهذا السبب فهي دائماً على أتم الاستعداد لمواجهة أي تهديدات مفاجئة.
ومن الضروريّ التذكير بأنّ الولايات المتحدة تسرق قمح ونفط الشعب السوريّ وتدعم مشاريع التقسيم والإرهاب والتجويع، رغم الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها السوريون والتي لا يمكن وصفها إلا بـ "حرب لقمة العيش"، في وقت تفرض فيه واشنطن –صاحبة هراء حقوق الإنسان والديمقراطية- أشدّ العقوبات والحصار على السوريين والذي يذيقهم الويلات، فيما تنجو من ذلك المناطق التي يديرها عملاء واشنطن أي المناطق التي تقع خارج سيطرة الدولة السوريّة وبالأخص مناطق ما تُسمى "الإدارة الذاتية"، حيث تؤكّد دمشق كل مدّة أنّ ثرواتها تُسرق أمام الجميع وغلباً ما تتجه نحو الأراضي العراقيّة برفقة مدرعات عسكريّة تابعة لجيش الاحتلال الأمريكيّ.
في النهاية، لم يتغير المسعى الأمريكيّ في منطقتنا أبداً، لكن ليس بالاستناد إلى وجهة النظر الأمريكيّة، فالوقائع تغيرت لكن السياسة الأمريكيّة تبقى نفسها، كيف لا؟ وواشنطن عملت كل ما بوسعها لإسقاط الحكومة السوريّة المقاومة من خلال دعم التنظيمات الإرهابيّة بشكل لا محدود بالتعاون مع دول معروفة، ولكن الآن وبعد أكثر من 10 سنوات من الانتصارات التي حققها الجيش السوريّ وداعموه من الحلفاء وبالأخص محور المقاومة، وعقب الفوز الساحق الذي حققه الرئيس الأسد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تيقن الأمريكيون أنّ دمشق حصن منيع أكثر مما تخيلوا، لهذا فإن الإجراءات التي يقوم بها الأمريكيون هذه الأيام في أراضي العراق وسوريا تهدف إلى تعطيل الترتيبات الأمنية في المنطقة وجعل الدولتين غير آمنتين أبداً، على الرغم من مزاعم مسؤولي البيت الأبيض بإرساء الاستقرار والأمن في غرب آسيا.