الوقت- لعقود من الزمان، كان أحد أركان القوة العالمية للولايات المتحدة هو شبكتها من الحلفاء الإقليميين حول العالم. هذا، بالإضافة إلى قوتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، وكانت الصورة الثقافية الخاصة لأمريكا على المسرح العالمي هي التي جعلت واشنطن قوة مهيمنة وزعيمة للعالم الغربي. ولكن التطورات الأخيرة في أفغانستان، والتي كان أهم مظاهرها إدارة الأمريكيين ظهورهم لحكومة أفغانستان الصورية، يبدو أنها قوضت بشدة مكانة واشنطن ومكانتها في جميع أنحاء العالم. لقد غزت الحكومة الأمريكية أفغانستان التي كانت تسيطر عليها حركة طالبان في عام 2001 بذريعة محاربة الإرهاب وبعد 11 سبتمبر، بذلت الولايات المتحدة الكثير من الجهود لإقامة جيش ديمقراطي أفغاني مع حكام علمانيين بعد احتلال أفغانستان. والآن شهد العالم كيف أخرج البيت الأبيض، بعد 20 عامًا القوات الأمريكية من أفغانستان، وكيف ظهرت جمهورية أفغانستان الإسلامية بقيادة حركة طالبان، التي جاءت إلى السلطة مؤخرا من خلال اتفاق سري مع واشنطن. وفي أعقاب هذه الأحداث، وعلى الرغم من كل الدعاية والجهود التي يبذلها المسؤولون الأمريكيون لتمجيد الجيش الأمريكي وتخفيف عبء الهزيمة، يُنظر إلى قضية انسحاب واشنطن على نطاق واسع على أنها خيانة كبرى وسبب لعدم الثقة. ولهذا يمكننا الآن أن ندعي بجرأة أننا في العصر الجديد نشهد انتشار انعدام الثقة بالولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم. وقد دفع هذا الأمر البيت الأبيض إلى البدء في جهود لاستعادة مكانة أمريكا العالمية.
واشنطن تسعى إلى استعادة صورتها في شرق آسيا
المنطقة الأولى، وربما الأكثر أهمية، التي تم فيها تقويض الثقة بالولايات المتحدة، والتي توليها واشنطن أهمية خاصة في عقيدتها الشرق أوسطية الجديدة، هي منطقة شرق آسيا. في الواقع، على مدى العقد الماضي، أصبح احتواء الصين في منطقة شرق آسيا من أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لكن دول المنطقة تشك الآن في مستقبل الثقة بواشنطن. وفي الوقت نفسه، فإن دولًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ومنطقة هونغ كونغ المتمتعة بالحكم الذاتي وحتى فيتنام، أصبحت أكثر قلقًا بشأن آفاق التعاون والثقة في دعم واشنطن لها في مواجهة التهديدات القائمة. لقد أدت مخاوف الجهات الفاعلة المختلفة الآن إلى حدوث تحركات خاصة من قبل السياسيين في البيت الأبيض. وعلى سبيل المثال، في مقابلة مع ABC News في 19 أغسطس 2021، صرح الرئيس الأمريكي "جو بايدن" أن الوضع في تايوان مختلف عن الوضع في أفغانستان، كما لو أن واشنطن قد وقعت علانية اتفاقية تعاون عسكري مع تايوان. ولهذا نرى نائب الرئيس الأمريكي "كامالا هاريس" أعلنت بأنها سوف تسافر إلى آسيا الأسبوع المقبل وخلال هذه الرحلة، سيسافر نائب الرئيس الأمريكي إلى فيتنام وسنغافورة.
وتأتي هذه الرحلات والتصريحات في وقت يقول الخبراء إن استيلاء حركة "طالبان" السريع والواسع النطاق على السلطة سوف يؤثر على الأمن القومي لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، وهم لا يعرفون ما إذا كان بإمكانهم الاعتماد على الالتزامات الأمنية لواشنطن. حيث قال "موراي هيبرت"، الخبير في مركز العلاقات الدولية والاستراتيجية في واشنطن، " خلال هذه الرحلة، يجب أن يحاول هاريس التعهد لدول شرق آسيا بأن الولايات المتحدة تلتزم بالتزاماتها تجاهها وأن هذه الالتزامات تختلف عما حدث في أفغانستان. وفي الواقع، ينبغي على هاريس أن يسافر إلى شرق آسيا لإحياء صورة واشنطن المشوهة عند حلفائها".
الكيان الصهيوني قلق وزيارة "بايدن" جاءت لبناء الثقة
بالإضافة إلى حلفاء أمريكا الغربيين والشرقيين، هناك لاعب مهم آخر يشك في دعم واشنطن ويقلق بشدة بشأن ثقته بالبيت الابيض في المستقبل وهو الكيان الصهيوني. لقد أثار سقوط أفغانستان في الأيام الأخيرة ردود فعل انتقادية قوية بين القوى السياسية والأمنية داخل الكيان الصهيوني. وتشير الدلائل إلى أن المسؤولين الصهاينة يتابعون التطورات في أفغانستان بقلق ولا يعتقدون أنه من المستبعد أن تعزز هذه الأحداث عودة ظهور التيارات المعادية للصهيونية. وبحسب موقع Breaking Defense، كتب مسؤول عسكري إسرائيلي كبير يوم الأحد الماضي، أن الأحداث في أفغانستان وسقوط العاصمة كابل في أيدي حركة طالبان كانت بمثابة "يومًا أسود" من شأنه أن يؤثر على جميع دول المنطقة تماشياً مع الوعود الأمريكية. كذلك، غرد "موشيه يعلون"، وزير الدفاع السابق الذي كان خارج السياسة لبعض الوقت، في يوم هروب "أشرف غني" من أفغانستان وعلى الرغم من أن أفغانستان بعيدة عن الكيان الصهيوني، إلا أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وهروب "غني" وصعود حركة "طالبان" أثر بشكل كبير على موقف الولايات المتحدة في المنطقة وقد يؤثر هذا الامر أيضا على أمن الكيان الصهيوني.
كما وصف "عاموس يادلين"، الرئيس السابق لوكالة المخابرات العسكرية ومدير مركز أبحاث مهم تابع للنظام، الأحداث في أفغانستان بأنها خلقت نيران ساطعة في المنطقة وسيكون لها آثار سلبية على هذا الجزء من العالم. كما أشار "يادلين" إلى مصر والسعودية والبحرين، قائلاً إن "أي حكومة تعتبر نفسها حليفة للولايات المتحدة، وهي ترى هذه الأحداث، تستنتج أن الولايات المتحدة لا ينبغي الاعتماد عليها عند حدوث أزمة عسكرية". وفي رد فعل آخر نرى أن صحيفة "مكور ريشون" الصهيونية كتبت هي الأخرى أن "الضعف الأمريكي" في أفغانستان سيكلف الكيان الصهيوني ثمناً باهظاً. وبعد هذا المستوى من ردود الفعل السلبية من قبل السلطات والإعلام الصهيوني حول قضية الانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان، نرى أن الحكومة الأمريكية تسعى لاستعادة صورتها والتأكيد على استمرار ضماناتها للكيان الصهيوني. ولهذا ففي 26 أغسطس 2021، سيستقبل الرئيس الأمريكي "جو بايدن" رئيس الوزراء الإسرائيلي "نفتالي بينيت" لأول مرة في البيت الأبيض. ويمكن رؤية لقاء "بايدن" مع "بينيت" أكثر من أي شيء آخر هو تأكيد واشنطن على استمرارها في دعم المجتمع السياسي الصهيوني.
أكراد سوريا؛ مرشح الخيانة القادم لواشنطن
بالإضافة إلى الجهات الحكومية، هناك لاعب مهم آخر أصبح قلقًا للغاية بشأن مستقبل علاقاتها وتعاونها مع الولايات المتحدة نتيجة لسقوط كابول، وهم الأكراد السوريون. لقد اعتمدت قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في السنوات الماضية منذ 2014 وحتى الان، حيث لعبت دور مرتزقة واشنطن في الميدان السوري. ووقع الأكراد السوريون ضحية للخيانة الأمريكية على مرحلتين، الاولى عقب الغزو التركي لعفرين عام 2018 والمرحلة الثانية الغزو التركي لمنطقة شرق الفرات عام 2020، والغريب في الأمر أن هذه الخيانات الأمريكية لهم لم يقنعهم بالتعاون مع الحكومة المركزية السورية. قد يكون سقوط كابول والهروب الكارثي للأمريكيين من أفغانستان أكثر قلقًا للأكراد السوريين من أي لاعب آخر في العالم. إن الأمريكيين، الذين سيضحون بدولة مستقلة وهيئة حاكمة عميلة، سوف يتخلون بسهولة عن الأكراد، الذين كانوا عملاء على المستوى دون الوطني. لذلك، يبدو الآن من الضروري أن تشعر القيادة الكردية بمسؤولية أكبر حول التطورات الجديدة أكثر من أي وقت مضى، وأن تنتهج سياسة التعاون والحوار مع الحكومة المركزية السورية قبل أن تذوق مرة أخرى خيانة الولايات المتحدة لها، كما فعلت في قضية الهجمات التركية.