الوقت- يمكن تقييم التطورات السياسية في العراق في السنوات التي تلت عام 2003 على أنها نزاع واضطراب بين النضال من أجل الاستقرار وبين فوضى أو أزمات مستمرة، وهذا يعني أنه في عملية بناء الدولة في العراق، كانت هناك دائماً محاولة لقيادة الوضع نحو الاستقرار والهدوء، لكن الديمقراطية الناشئة في هذا البلد كانت دائماً محملة بأزمات داخلية وخارجية خطيرة ولم يستتب الأمن والاستقرار في البلاد.
لا شك في أن أهم أزمة أمنية شهدها العراق في السنوات الأخيرة هي ظهور تنظيم داعش الإرهابي واحتلال هذا التنظيم الإجرامي لأجزاء كبيرة من أراضي البلاد، في الحقيقة، إن ظهور داعش كان بمثابة نقطة عطف كبيرة على العراق، وأن ما يسمى "عصر ما بعد داعش"، يشهد بداية جديدة على مستوى الحكم والسياسة في العراق.
إن عبور الأطراف السياسية من مرحلة تكرار تجربة الحكومات السابقة، دفعتهم الى مرحلة جديدة، يتمحور أساسها ومحورها الرئيس حول عبور الأزمات الماضية من أجل إكمال عملية بناء دولة وشعب، ولكن في هذا السياق، ما طُرح أخيراً فيما يخص احتمالية حدوث انقلاب عسكري في بغداد، أثار الكثير من الجدل.
حيث أصدر وزير الداخلية العراقي الأسبق باقر جبر صولاغ الزبيدي ، في 4 أيلول 2020 ، بياناً حذر فيه من مخطط عسكري يحوكه حزب البعث المحظور بقيادة نائب صدام حسين، عزت الدوري، بمساعدة شخصيات عسكرية، تبدو قضية الانقلابات في العراق الجديد، وهو عراق لا يعتمد فيه تقسيم السلطة والحكومة على الطريقة الاستعمارية البريطانية والتي تحكم فيها أقلية صغيرة أغلبية السكان، غير مسبوق وغريب في حدّ ذاته.
في الوقت الحاضر، السؤال هو ما إذا كان احتمال حدوث انقلاب عسكري من قبل حزب محظور ومجتث مثل حزب البعث حدثً طبيعي أم إن هناك أيادٍ خفية تقف وراء هذه الرواية؟
انقلابات بغداد.. تكرار الشفرة التاريخيّة المشفّرة
منذ نشأته الحديثة عام 1921، شهد العراق عدة انقلابات مصيرية في مراحل زمنية مختلفة. ومن بين جميع الدول العربية في القرن العشرين، لم تشهد أي دولة انقلاباً وانتقالاً عنيفاً للسلطة مثل العراق، وهو ما جعل بغداد تُعرف في العالم العربي بأنها عاصمة الإعدامات، أي العاصمة التي تعتمد فيها الأطراف السياسية على العنف والقوة العسكرية باستمرار من أجل إزاحة الآخر عن السلطة، وبشكل عام، يمكن القول إن الانقلاب كان المبدأ الأساسي الوحيد في حكم العراق حتى السنوات التي سبقت عام 2003.
لكن في السنوات التي أعقبت عام 2003، مع سقوط الحكم الديكتاتوري لنظام صدام وحزب البعث، نشهد تشكيل نظام ديمقراطي يقوم على أساس مشاركة جميع الأطراف السياسية والمكونات المختلفة في السلطة، بعد عام 2003، توفرت أجواء انتقال السلطة رسمياً من خلال الانتخابات وتصويت الناخبين، وتم تقسيم السلطة في نظام متوافق عليه، بين الأكراد والشيعة والسنة. وعلى الرغم من التوتر السياسي الشديد والخلافات بين الأحزاب العراقية في جميع السنوات الماضية، إلا أن احتمال حدوث انقلاب لم يطرح قط، لأن آلية الانقلاب وشروطه لم تكن متوافرة في البنية السياسية للعراق.
ومع ذلك، في ظل هذه المرحلة الراهنة، يمكن النظر إلى عودة ظهور قضية الانقلاب على أنها تجديد للرسالة المشفرة، ما يهدّد طبيعة السلطة والعملية السياسية الجديدة في العراق، إن إبراز حزب محظور ومجتث مثل حزب البعث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون رسالة طبيعية وعادية، لذلك، من أجل دراسة القضية بشكل أعمق، من الضروري الوقوف على الأيدي الخفية وراء هذه المؤامرة.
الأيادي الخفية وراء مؤامرة الانقلاب البعثي
تكشف مراجعة التطورات الأخيرة في العراق وجود دومينو حقيقي لتهديد الأمن والاستقرار في البلاد، ففي مطلع عام 2020، اغتالت القوات الأمريكية الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في عملية إجرامية، وأدى هذا العمل الإجرامي الذي كان انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي والسيادة الوطنية للعراق، إلى الموافقة على طرد القوات الأمريكية من قبل البرلمان العراقي وأصبح ضمن مشروع قانون.
هذا القانون، الذي حوّل الوجود الأمريكي على الأراضي العراقية إلى احتلال ورفع فعلياً مظلة الحكومة العراقية عن تلك القوات، قوّض بشدة أمن القوات والقواعد الأمريكية ومصالح البيت الأبيض في العراق. ومنذ ذلك الحين ابتكرت الولايات المتحدة ونفذت سيناريوهات مختلفة ومعقدة للالتفاف على قرار البرلمان ورفضت تطبيق القانون وإرادة الشعب العراقي.
ومن هذه السيناريوهات، التهديد بفرض عقوبات اقتصادية شديدة على العراق، ودعم فلول العناصر التكفيرية من تنظيم داعش في مناطق مختلفة تحت تهديد عودة داعش، وخطة تقليص القواعد العسكرية الأمريكية وقوات التحالف في العراق كتكتيك لمهاجمة قوات الحشد الشعبي التي لعبت دوراً رئيساً في القضاء على إعادة ظهور تنظيم داعش اضافة الى إصرارهم على ضرورة طرد الولايات المتحدة من العراق، ومؤخراً كانت هناك خطة لإغلاق ونقل القنصلية الأمريكية وحلفائها من بغداد إلى أربيل.
واستمراراً لهذه السيناريوهات، نرى احتمالية وجود مؤامرة انقلابية من قبل حزب البعث المنحل في بغداد، مجموع هذه التهديدات له هدف أساسي، وهو: "أن العراق بلد غير آمن وغير مستقر، ويجب أن تبقى القوات الأمريكية في البلاد"، لكن الحقيقة أن خطة الانقلاب لا تتوافق مع أي منطق سياسي وعقلاني في العراق الجديد والحالي، ونتيجة لذلك يمكن القول إن واشنطن في استمرار نضالها من أجل الاستمرار والبقاء في العراق والمنطقة تنوي استخدام أدوات حزب البعث وفرضية الانقلاب لإضعاف إرادة الحكومة والشعب.