الوقت- في الآونة الأخيرة، وتحديداً في 18 يونيو 2020، تحدّث دونالد ترامب عن ضرورة الحفاظ على قطع العلاقات مع الصين تحت أيّ ظرف من الظروف ، حيث أثارت تصريحات رئيس أمريكا ردّ فعل واسع النطاق بين وسائل الإعلام والمراقبين السياسيين والاقتصاديين، والسؤال الرئيس للمراقبين الآن هو كيف تهزّ تصريحات ترامب الأساس المعرفي للاستثمار العالمي في العصر الحالي ، بالنظر إلى طبيعة الاقتصاد العالمي النيوليبرالي ، والذي يقوم على التجارة الحرة وعدم تدخل الحكومة.
وهل من الممكن في العالم الحقيقي تنفيذ تصريحات دونالد ترامب حول قطع العلاقات مع الصين؟ أو على أي مستوى ستقطع أمريكا العلاقات مع الصين؟ وهل سيتمّ تضمين العلاقات الاقتصاديّة للشركات الأمريكية في الصين والشركات الصينية في أمريكا ، أم إنّها ستقتصر على مستوى العلاقات الدبلوماسية والسياسية؟
استحالة قطع العلاقات السياسية
كانت العلاقات الخارجية بين أمريكا والصين مضطربة للغاية على مدى العقود الماضية ، حيث إنّه بعد فوز الشيوعيين بقيادة ماو على القوميين الصينيين في 1 أكتوبر 1949 ، رفضت أمريكا ، بصفتها زعيم الكتلة الغربية ، الاعتراف بالصين رسمياً ، وتمّ تسليم مقعدها في مجلس الأمن إلى تايوان (تايبيه الصينية) ، لكن حصول جمهورية الصين الشعبية فيما بعد على سلاح نووي في عام 1964 ونشوب خلاف في علاقاتها مع روسيا بشأن قيادة العالم الشيوعي ، قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في أواخر الستينيات بتوقيع معاهدة مع الصين لنزع فتيل التوترات مع بكين ، وفي نهاية المطاف ، اعترفت أمريكا بإدارة هنري كيسنجر ونيكسون في عام 1971 بجمهورية الصين الشعبية ، وسلّمت رسميّاً مقعدها في منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى الحزب الشيوعي الصيني.
وبعد وفاة ماو في عام 1976 ، أتيحت للصين فرصة دخول السوق الحرة للاقتصاد العالمي ، ومنذ ذلك الوقت كان تعاون أمريكا مع بكين في مسير التواصل مع العالم الرأسمالي ، وعلى مدى العقود القليلة الماضية ، وخاصة منذ التسعينات ، توسّعت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين أمريكا والصين ، وظهرت مجالات مهمة من التفاعل والمواجهة للبلدين كعضوين دائمين في مجلس الأمن ، وفي ظلّ مثل هذه الظروف ، فإن تصريحات ترامب حول قطع العلاقات مع الصين على المستوى السياسي أشبه بطرفة أو حلم طفولي لا يمكن تحقيقه في عالم المعادلات الدبلوماسية الموضوعية.
التشابك الاقتصادي واستحالة قطع العلاقات على شكل إيعازات
ثمّة هناك مستوى آخر يثبت إمكانية واحتمالية قطع العلاقات بين الصين وأمريكا، بناءً على ما يقوله ترامب ، والذي يكمن في سياق العلاقات الاقتصادية الواسعة والممتدة بين أمريكا والصين ، وفي هذا الصدد ، يمكننا أن نذكر ثلاثة مستويات رئيسة:
1. حجم التبادل الاقتصادي الواسع بين الجانبين: مما لا شك فيه أنّ حجم التجارة بين أمريكا والصين في الوقت الحاضر على نحو أنّه لن يكون من الممكن قطعها أو تقليصها بشكل كبير خلال العقد المقبل على الأقل ، فعلى الرغم من أنّ حرب ترامب التجارية والتعريفات الجمركية مع بكين قلّلت من مستوى التجارة بين الجانبين ، فإن الحقيقة هي أنّه من غير الممكن قطع العلاقات الاقتصاديّة بين البلدين، ووفقاً للإحصاءات الأمريكية، فقد بلغت قيمة الواردات من الصين والصادرات من أمريكا في عام 2018 ، 660 مليار دولار ، بينما انخفض الرقم في عام 2019 إلى حوالي 470 مليار دولار ، وعلى مستوى التصدير فقد تراجعت صادرات أمريكا إلى الصين في 2018 من 120 مليار دولار إلى حوالي 87 مليار دولار في 2019 ، ولم يعد يتمّ تصدير كميات كبيرة من المنتجات الزراعية إلى الصين بسبب التعريفات التجارية التي تسببت في خسائر فادحة للمزارعين الأمريكيين ، وفي ظل هذه الظروف ، تبدو تصريحات ترامب بالتأكيد أشبه بحلم صبياني.
2. حصة الصين الكبيرة في سندات وزارة الخزانة الأمريكية: تعتبر الصين ، أكبر مالك وبائع للسندات في الخزانة الأمريكية ، حيث إنّه وفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية فإن حجم الأوراق النقدية من فئة الدولار التي تملكها الصين قد انخفضت إلى 1.12 تريليون دولار في نهاية شهر مارس ، ومع ذلك ، تمتلك الصين حالياً 7٪ من إجمالي سندات وزارة الخزانة الأمريكية ، وتكمن المسألة الآن في أنّ الصين يمكنها بيع السندات التي تمتلكها إذا ما دعت الحاجة الى ذلك من أجل الحفاظ على قيمة عملتها الوطنية ، والنقطة المهمة هي أن أمريكا لديها حاليا 6.47 تريليونات دولار من الديون على شكل سندات في الخزانة لدول العالم ، أي بزيادة 4٪ عن العام السابق ، وبشكل عام ، يبدو أن قدرة الصين وامتلاكها لهذا الكم من السندات المالية تجعل قطع العلاقات بين البلدين ، كما يقول ترامب أمراً غير ممكن.
3. اعتماد أمريكا على المعادن الصينية: في خضمّ حرب التعرفة الجمركية ، الذي يفرضها ترامب على الصين ، يجب أن تؤخذ هذه النقطة في عين الاعتبار ، ألا وهي حاجة أمريكا الماسّة إلى استيراد المواد الخام والمنتجات المعدنية من الصين ولا يمكنها بسهولة العثور على بديل في هذا المجال ، وفي الواقع ، ففي الوقت الحالي ، فإن أحد امتيازات بكين هو انفراد البلاد في انتاج بعض المعادن الاستراتيجية التي تحتاجها صناعة التكنولوجيا ، حيث تنتج الصين أكثر من 90 في المئة من العناصر الأرضية النادرة في العالم ، وقد استوردت أمريكا حوالي 80 في المئة من المعادن النادرة من الصين بين عامي 2014 و 2017 ، هذا على الرغم من حقيقة أنه يبدو من المستحيل على أمريكا أن تجد بديلاً لهذه المنتجات على المدى القصير.
وفي ظلّ مثل هذه الظروف ، يمكن أن تُنسب تصريحات ترامب ، أولاً ، إلى جهود البيت الأبيض هذه الأيام لخلق فوبيا من الصين تسود الأجواء العالمية ، وتصويرها بالمذنب والمسبّب بتفشّي مرض كورونا ، ومن ناحية أخرى ، يمكن اعتبار هذه التصريحات كإجراء للاستهلاك المحلّي بعد اعتراف جون بولتون في مذكراته ، حيث كشف فيها عن طلب ترامب من الرئيس الصيني مساعدته في الفوز بالانتخابات.